يشكل استقباله لشخصين غربيين قرعا باب بيته في يوم صيف باريسي ماطر، شهادة أخرى على لطف الراحل محمد أركون وتواضعه. بعد أن حيّتنا زوجته اللطيفة على عتبة شقته، تعرفنا عليه وعلى ابنه وحفيده. كانت تحية بسيطة دافئة خالية من التكلف والترحاب المصطنع.
شكرناه ونحن نشرب الشاي ونتناول الحلويات الشرقية لأنه رد على مكالمتنا الهاتفية قبل أسابيع قليلة، وأعطانا الفرصة لبحث عمله شخصياً أثناء مرورنا في باريس. شرحنا له أننا كلانا تأثر بعمله الذي غيّر النموذج، وكنا نتوق لسماع وجهة نظره حول الخلاف القائم بين العالمين الإسلامي والغربي.
كان محمد أركون أكاديمياً وشخصية بارزة في الدراسات الإسلامية والفكر الإسلامي المعاصر.
درّس في جامعة السوربون في باريس وكان زميلاً في جامعة برنستون وأستاذاً زائراً في عدد من الجامعات في أوروبا والولايات المتحدة، بما فيها جامعة أدنبرة وجامعة كاليفورنيا بلوس أنجليس وجامعة نيويورك وجامعة تمبل والمعهد البابوي للدراسات الإسلامية في روما.
إلا أن ما ميّز محمد أركون عن العديد من زملائه هو أنه كان رائداً بفتح الطريق، ونوعاً من المفكرين الثوريين.
أراد من جمهوره أن يفهم أن التفكير العقائدي والأيديولوجيات المتصلبة تحتاج إلى المساءلة من قبل رجال ونساء أحرار يستخدمون ما وهبهم الله من معرفة وقدرة على التفسير المنطقي وأفضل الأدوات العلمية المتوافرة أمامهم. وبشكل خاص، وفيما يتعلق بالإسلام، يعني ذلك ضمنياً التحليل، من خلال الفكر الناقد والعلوم الاجتماعية الحديثة لنظام الفهم الأساسي والتاريخي الذي يشكل أساس تكوين الفكر الإسلامي وتوسيعه.
وبمعنى آخر آمن محمد أركون أنه من الضروري للمسلمين اليوم أن يعودوا إلى أصول الدين الإسلامي وأن يحللوا بعقلية ناقدة كيف ولماذا تكونت هذه المعرفة الجماعية عبر القرون وأصبحت تشكل الإسلام المعاصر. ومن خلال تلك العملية التي تشكل تحدياً، فهم محمد أركون أن المسلمين يملكون فرصة ليفهموا أنفسهم بشكل أفضل، ويحصل الإسلام على فرصة أفضل لأن يبقى ذا علاقة وثيقة معهم في القرن الحادي العشرين وما وراءه.
ومن الجدير بالذكر أنه في الوقت الذي نذر أركون نفسه إلى أبعد الحدود لدراسة الإسلام، إلا أنه آمن كذلك أن نفس التساؤل والتفكيك وإعادة الهيكلة بشكل تفصيلي هي أمور ضرورية لنا جميعاً بغض النظر عما إذا كنا مسيحيين أو يهوداً أو مسلمين أو أتباع ديانات أخرى. شكل ذلك بالنسبة إليه أفضل ضمان بأن الشرق والغرب سيلتقيان باحترام متبادل وكرامة، وقبل ذلك كله، بسلام.
لم توفر رسالته حول الحاجة إلى دراسة دقيقة للمنهجية التي تشكل أساس التفسير الديني له شعبية كبيرة، وخاصة في العالم العربي. أشار هذا المفكّر بإصبعه الانتقادي الذي لا يقبل بالحلول الوسطى إلى حكام ما بعد فترة الاستعمار في المنطقة، بمن فيهم في بلده الجزائر. بالنسبة إلى محمد أركون، تشكل التعددية الفكرية التي غلبت على العصر الذهبي للإسلام من القرن الثامن وحتى القرن الثالث عشر عنصراً أساسياً في نجاح الحضارة الإسلامية. إلا أنه رأى الاستخدام الحالي للدين كأسلوب لتبرير السلطة السياسية وإضفاء الشرعية عليها من قبل كل من زعماء العالم العربي بعد فترة الاستعمار وكذلك الخصوم الذين سعوا لدور رسمي للإسلام في السياسة، على أنه جريمة.
وقد آمن أن تعاليم الإسلام يجب أن تكون حرة من التأثيرات التي تخدم ذاتها، ويجب دراستها في ساحة فكرية وعلمية تتسامى عن بيئاتها الثقافية المختلفة. هناك اتخذ موقعه وحارب معاركه.
ومن هنا كان يشكل أركون مصدراً رئيسياً للخوف. من الواضح أن كلاً من الأنظمة السلطوية في العالم العربي وأنصار نظام الحكم المرتكز على المبادئ الإسلامية شعروا بالتهديد من تصميم هذا المفكّر على تحرير شعبه من العقيدة الباهتة غير المناسبة. لسوء الحظ أن غالبية المفكرين المسلمين رفضوا توجهه، الأمر الذي تركهم وقد أعاقتهم توجهاتهم الفكرية، وعرضة للمفكرين التقليديين الذين ينادون بدور سياسي للإسلام، والذين يظهرون وهم يقودون الطروحات في العالم المسلم اليوم.
ورغم أنه من الواضح أن عمل محمد أركون لم يحصل على اهتمام كافٍ أثناء حياته، كما هو الحال مع العديد من الفلاسفة والمصلحين العظام، فلا شك أن التاريخ سوف يتذكره كواحد من المفكرين الدينيين في هذا القرن. ولكن بالنسبة إلى هؤلاء من الذين حصلوا على شرف لقائه، ولو لبرهة قصيرة بعد ظهر يوم ماطر من أيام الصيف الباريسي، فسوف نذكره للطفه البسيط وحضوره الدافئ وتواضعه المنوّر التي تشكل تجسيداً كاملاً للإسلام الخيّر الكريم الذي تصوّره وأحبه.
باحث مركزه فرنسا، والمقال يُنشر بالتعاون مع «كومن غراوند» - محللة مركزها واشنطن العاصمة، وقد أقامت في دول عديدة في الشرق الأوسط، وهي متخصصة في شئون الشرق الأوسط والقانون الإسلامي
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 2962 - الجمعة 15 أكتوبر 2010م الموافق 07 ذي القعدة 1431هـ