العدد 2961 - الخميس 14 أكتوبر 2010م الموافق 06 ذي القعدة 1431هـ

الثورة الفرنسية والتعارض بين النظرية والواقع (3)

محمد خاتمي comments [at] alwasatnews.com

رغم هذه التحفظات النظرية، يؤيد روسو أصل الديموقراطية المتبنى من قبل المصلحين، ويمتدح «الحرية» و»المساواة» اللتين تدافع الطبقة الجديدة عنهما بشدة وصلابة، رغم أن سعي هذه الطبقة في المحل الأول هو إلى إلغاء الامتيازات الموروثة عن النظام القديم، أكثر منه إلى تثبيت «الحرية» و»المساواة»، وأن همها مشاركة أصحاب الامتيازات، تمهيداً للاستيلاء عليها في نهاية الأمر، وهو ما كان...

وروسو يعتقد بأننا «من حيث نظرنا إلى أساس العقد الاجتماعي، نصل إلى نتيجة واحدة هي أن العقد المذكور يحقق مساواة بين الناس تجعلهم يتعهدون القيام بواجبات معينة، ويحصلون على حقوق متشابهة».

«فلابد فيما تقوم به الحكومة، أو يصدر عن الإرادة العامة، أن يأتي على نحو يتساوى معه الجميع في النفع الحاصل منه، أو الواجب المترتب عليه. فعمل الحكومة مشروع لأنه يستند إلى العقد الاجتماعي، وعادل لاستواء الجميع فيه، ومفيد لأنه يهدف إلى سعادة عموم الناس».

ومع أن روسو ذو عقيدة وإيمان، فهو يبدي، في باب العلاقة بين الدولة والدين، وبصراحة، الرأي الذي تقتضيه روح العصر. ولعل هذه الصراحة سبب آخر من أسباب اهتمام مجايليه والمصلحين والسياسيين بأفكاره.

فروسو يعتقد «أن جانباً من التدين من صلاحية الحكومة ومن ثم فإن على الهيئة الحاكمة تدوين أصوله دونما أن تعد هذه الأصول أحكاماً دينية، وإنما يجب أن ينظر إليها على أنها عقائد اجتماعية، لا يمكن لشخص بدونها أن يكون مفيداً للمجتمع والرعية...».

ويعتقد أيضاً بأنه: «يجب أن تكون أصول دين الدولة بسيطة ومعدودة، وأن تبين بصراحة ووضوح، دونما حاجة إلى تفسير وتوضيح. وغاية هذه الأصول الإقرار بوجود الله القادر، العالم المدرك، الرحمن الرحيم، والإيمان بالآخرة والمعاد، ومكافأة المحسنين ومجازاة المسيئين، واحترام العقد الاجتماعي والقوانين المدنية. تلك هي أوامر هذا الدين. أما نواهيه فتنحصر بهذا: لا تكونوا متزمتين فيما يخص عقائد الآخرين». و»... يجب التساهل مع جميع المذاهب غير المتزمتة، شرط ألا تخالف أصولها واجبات أفراد الشعب الاجتماعية والمدنية. كما يجب أن يطرد من البلاد كل من يجرؤ على القول: لا فلاح على غير ديني».

الحق أن القول بـ «العقد الاجتماعي»، وبتصميم الأفراد، عن رضا واختيار، على تشكيل المجتمع المدني، والقول بـ «الإرادة العامة» سبب لنشوء الدولة والسيادة والحكم، واشتقاق «الديموقراطية» كوجه مطلوب للحكومة من ذلك، والإصرار على ضرورة تحقيق المساواة في المجتمع، ورفض الامتيازات، وإيجاد الأرضيات المناسبة لتمتع أفراد المجتمع بحقوق متساوية، وتأدية واجبات متساوية، ومدح «التسامح» وحيويته في علاقة الناس والمجتمعات ببعضها، وسوى ذلك من عناوين ارتبط اسم روسو بها، كل ذلك كاف لأن يجعل روسو في طليعة معماريي العصر الجديد. بل حسب روسو أن إعلان حقوق الناس الذي نظم في شهر أغسطس/ آب من العام 1789، أي في أوج الثورة الفرنسية، وجاء بصورة مقدمة على دستور فرنسا الجديد، تأثر بأفكاره أكثر من تأثره بأفكار أي رائد آخر من رواد العصر الحديث.

على حد تعبير ول ديورانت: «كان جميع نواب مجلس فرنسا الوطني تقريباً قد قرؤوا مقالات روسو الخاصة بإرادة الشعب، وقبلوا عقيدته بوجوب أن يحصل كل فرد على الحقوق الأساسية وفقاً للقانون الطبيعي، ولذا لم تحصل سجالات كبيرة عند كتابة مقدمة لهذا الدستور الجديد».

رغم الإفادة الجلى التي استفادتها الثورة الفرنسية من أفكار روسو، ورغم أن بعض آرائه يصعب تمييزها عن الشعارات الليبرالية الرأسمالية إلا بعد تدقيق في النظر وإمعان - رغم ذلك، فإن المجتمع الأوروبي، بعد كل النزاعات والأزمات والثورات التي مر بها، لم يسلك طريق روسو بل طريق لوك، ذلك أن أفكار روسو لا تنسجم في المحل الأخير مع روح الرأسمالية والنظام الليبرالي - الديموقراطي الذي هو منها النظام السياسي الأنسب.

وعلى أية حال، فمازالت حركة المجتمع الأوروبي نحو تحقيق الاستقرار التام للنظام الرأسمالي، وتثبيت قواعد النظام الليبرالي الديموقراطي، وتعميقها، متواصلة منذ ذلك الحين إلى وقتنا الحاضر. ونحن، وإن شهدنا كثيراً من التغيرات والتحولات في هذا المجال، كما في كثير من مجالات الحياة الفكرية والاجتماعية في الغرب، فإن حقيقة الأمر هي أن فجر الحضارة الجديدة لاح في سماء أوروبا، بفضل آراء مفكرين من أمثال لوك.

لقد شهدت هذه الحقبة من الزمن، إلى توسع الأنظمة الليبرالية الديموقراطية، وتنامي أسسها الفكرية والفلسفية، تفتح مذاهب فلسفية وفكرية وسياسية أخرى صار بعضها في ما بعد سبباً لظهور أنظمة استبدادية دكتاتورية، وحكومات تتعارض تماماً مع ما تحقق في إنجلترا وفرنسا وأميركا الشمالية وكثير من مناطق أوروبا.

والحق أن التطورات التي شهدها هذا القرن كانت جد متسارعة في مجال السياسة، شأنها في ذلك شأن ما كان في مجال العلم والتكنولوجيا.

وإنه لمن المستحيل، في ظل حضارة نابضة بالحياة، ظهور نمط من السياسة والمجتمع لا يساير الأسس الحضارية والطبيعية والمدنية لتلك الحضارة، ومن المستحيل أن تدخل عليها تحولات جوهرية؛ لأن أي تحول جوهري يعني دوال هذه الحضارة لمصلحة حضارة أخرى.

و»الحضارة الحديثة» ما برحت قائمة، كما أن وجهها السياسي مازال الليبرالية التي قامت عمارة تلك الحضارة في القرن الثامن عشر على أسسها، ومازالت مسيرة قسم كبير من المجتمع الغربي في أميركا الشمالية وأوروبا الغربية، منذ ذلك اليوم وحتى الوقت الحاضر، تسير باتجاه تثبيت أسس الرأسمالية وتدعيم سيادة النظام الليبرالي - الديموقراطي، وإنه لمن التعامي غير المبرر إنكار واقع أن هذا المذهب هو اليوم أقوى وأشهر ظاهرة سياسية واقتصادية واجتماعية.

ومهما كان من أمر، فلا ينبغي الشك في المنافسة القوية التي يضطلع بها هذا المذهب، وإن لاحت آثار أزمة على جبينه، بل على جبين الحضارة الجديدة أيضاً.

فرغم أن الليبرالية مازالت حية، فإنها لم تدم ثابتة على نسق واحد، فمن عهد لوك إلى يومنا الحاضر مرت الليبرالية بتحولات كثيرة على مستويي النظرية والتطبيق. وواقع الحال أن الاعتراضات التي وجهت إلى الليبرالية، فضلاً عما استفادته النظم الليبرالية من تجاربها ومن مراكمة هذه التجارب، دفعت أصحاب الرأي والسياسيين المحسوبين على هذا المذهب إلى مراجعات مستمرة، مما أتاح له، أي المذهب، أن يتجاوز ما تعرض له من أزمات داخلية ومن تهديدات خارجية.

من هذا الملخص السريع لما تقدم تفصيله سابقاً يمكن استخلاص الأمور الآتية: أولاً: إن الليبرالية ظلت متفوقة على سائر المذاهب، طوال القرون الماضية، ولاتزال. وقد أثبتت أنها الأرسخ في ثقافة الغرب وحضارته، والأمرن في مواجهة الحقائق والواقعيات، والأقدر على معالجة المشكلات.

ثانياً: على رغم اتساع الشقة بين التيارات الليبرالية، لاسيما بين التيار الداعي إلى المجتمع المنفتح والآخر الليبرالي الديموقراطي، فإن هذه الاختلافات لا تمس جوهر الليبرالية بل يمكن اعتبارها تحولات عرضية.

ثالثاً: إن الليبرالية في اعتقادنا ليست المنزل الأخير للسياسة في مسيرة البشرية من فجر التاريخ حتى الآن، ولا الغاية القصوى في الفكر السياسي، ولا نقطة النهاية التي ليس بعدها من شيء.

وعليه، فإن بحثنا العاجل في تطور الفكر السياسي، إذ ينتهي عند ليبرالية القرن الثامن عشر، فهو لا يستغرق ما يقتضيه موضوعه من بحث وتدقيق. ومن المفيد لربما أن نكرر ما سبق لنا قوله من أننا لم نتغيَ من هذا البحث المقل سوى الإشارة إلى بعض عناوين تطور فكرة السياسة في الغرب، وقد ألجأنا ما توخيناه من اختصار إلى غض الطرف عن العديد من المسائل التي قد تكون، في غير هذا القصد، ذات أهمية كبرى.

إقرأ أيضا لـ "محمد خاتمي "

العدد 2961 - الخميس 14 أكتوبر 2010م الموافق 06 ذي القعدة 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً