العدد 1090 - الثلثاء 30 أغسطس 2005م الموافق 25 رجب 1426هـ

عناصر التشكيلة الاعتباطية

التشكيل السياسي الأميركي "تحت المجهر":

عادل مرزوق Adel.Marzooq [at] alwasatnews.com

-

هناك من يعتبر أن مفهوم التشكيل السياسي الأميركي في التجربة السياسية الأميركية اعتباطي التشكيل، إلا أنه يتصف بقدرته على الانتظام في سياق منتج وحيوي. وهذا ما يمكن أن نقرأه في بيان عناصر التشكيل السياسي الأميركي.

لابد من الانتباه إلى أن هذه التشكيلات المرجعية تعتبر آلة ضبط وتقويم وإنتاج لجميع الاستراتيجيات السياسية الأميركية، لابد لنا أن نحيل أية رؤية سياسية أميركية إلى إحدى هذه المؤثرات أو القوى الضابطة.

قد تنشط في الخطاب السياسي الأميركي إحدى هذه التشكيلات السياسية، إلا أن الخطاب الأميركي يعمد إلى المزاوجة بين هذه التشكيلات ليضمن إبقاء الخطاب السياسي الأميركي "مقنعا" أو بتعبير أصح أكثر قدرة على الرواج والانتشار والقبول.

هذا التمازج بين التشكيلات يصنع للولايات المتحدة خصوصيتها التاريخية، ويجعل منها حالا فريدة على صعيد تحليل النماذج الإمبراطورية، هذه الحال من التمازج والتنوع المرجعي تضفي حالا من الديناميكية السياسية القادرة على احتواء أي من المستجدات السياسية على الصعيد الدولي بانسيابية وقدرة مميزة على ضمان استجابة المجتمع الأميركي، وهذا ما تؤكده استطلاعات الرأي، على رغم بعض القراءات العربية التي تتصف بالتقليل من فاعليتها وصدقيتها، فإن هذه القراءات التي تحاول التقليل من أهميتها ليست سوى "وإذا أتتك مذمتي من ناقص"، ولعل أكبر الصفعات التي تلقتها هذه الآراء، هي إعادة انتخاب الرئيس الأميركي جورج بوش الابن لولاية رئاسية ثانية.

التشكيل التاريخي: خلف كل أميركي قصة عذاب وحلم

المتحملقون خلف دعاية إنكار الحضور التاريخي للولايات المتحدة، يبالغون في العتة وممارسة السذاجة في تحليلاتهم الاجتماعية والسياسية، كان خلف كل أميركي - مع بداية التأسيس للولايات المتحدة- قصة عذاب وضياع واضطهاد، أو ميثاق شرف حوته كل سفينة من سفن المهاجرين الأوروبيين المتجهين إلى السواحل الأميركية، هذه العذابات المتراكمة صنعت "قوة تاريخية"، وقوة على "الحلم" بالسعادة والبقاء والإنتاج، وهذا ما جعل من الأميركيين، أسرع شعوب العالم صناعة للتاريخ.

لابد من مطالعة التاريخ الأميركي كحضور مستمر ودائم في السياسة الأميركية، على أن هذا الحضور له خصائصه ومكوناته العامة، هذه الخصائص تتضح في النقاط الآتية:

أولا - المرافعات الأميركية وبيانات الاستقلال: تعمد أدبيات المرافعات القضائية الأميركية وبيانات الاستقلال، على تأسيس "مهمة تاريخية" للولايات المتحدة، إلى ما يتعدى مفهوم إقامة دولة لمجموعة من المهاجرين، هذه المهمة قد اختصرها في أنها "جمهورية الحلم"، إلا أن ما يميز هذا الحلم أنه "حلم حقيقي" على الأقل بالنسبة إلى الأميركيين أنفسهم.

ثانيا - يذهب أكثر النقاد والأدباء الأميركيين "تيري تشأت- سفين بيرتريكس" إلى أن الثقافة والأدب الأميركيين مرا بتجربة تأسيسية "ممزوجة بالتاريخ"، ثمة صور عدة على صعيد "الشعر" أو "أدب المقالة"، كذلك هناك حضور مميز في السينما الأميركية لتلك المكونات التاريخية للإنسان الأميركي قبل مرحلة "تأمركه"، بمعنى أن الولايات المتحدة الأميركية قد قامت بإعادة صناعة للتاريخ الإنساني، قد نختلف في تحديد ماهية هذه الهوية، إلا أنه من الضروري لنا أن نعترف بوجود "هوية أميركية" منجزة وقارة.

التشكيل الاقتصادي: جمهورية السوق المنظمة

لم تكن مخاوف فرانكلين ضربا من الكهانة السياسية، بل حقيقة أميركية واقعية، فالعنصر الاقتصادي بما هو "تشكيل سياسي" في التجربة الأميركية هو ظهور لا يخفى عن العيان.

التكتل الاقتصادي مع مراهاناته اليوم "الليبرالية الجديدة"، "الشركات المتعددة الجنسية"، "سلطة مصانع الصلب والأسلحة في الشمال الأميركي"، "سيطرة شركات السلاح على الإعلام الأميركي"، هذه الظروف الاقتصادية تكتمل كتشكيل سياسي مؤثر في الخطاب السياسي الأميركي.

التشكيل الديني البروتستاني: إن لأميركا ربا يحميها

في مقال "الولايات المتحدة بوصفها اعتباطية منظمة"، وفي مقال "التدين الأميركي"، ناقشت الظاهرة الدينية والمكون المسيحي السياسي للولايات المتحدة، وهذه الفاعلية في التشكيل السياسي الأميركي، تجعل من الظاهرة الدينية حضورا طاغيا، لا يستهان بتأثيراته.

إن مجمل الخطاب السياسي الأميركي، وخصوصا فيما يتعلق بفلسفة البقاء الأزلي لجمهورية الرب، وفيما يتعلق بدمقرطة العالم، هو خطاب ينتهج البناء الإنجيلي التبشيري بوضوح، هذا التشكيل السياسي وإن كان أشبه بالحضور المسستر في الخطاب الأميركي، إلا أنه يلقى "مبالغات" كثيرة على صعيد القراءات العربية المتوافرة بشأن السياسة الأميركية.

التشكيل الإمبراطوري: لامتداد بعيدا عن الجغرافيا السياسية

نتيجة أولية، أن نعتبر الولايات المتحدة إمبراطورية. لكن النتيجة الأهم هي أن الولايات المتحدة ليست إمبراطورية امتداد جغرافي كلاسيكي، والمقصود هو أن الولايات المتحدة لا تتصرف فعليا على شاكلة الإمبراطوريات التقليدية، على سبيل المثال، فهي لا تعمد إلى احتلال دولة مجاورة كالمكسيك، بينما نقرأ في استطلاعات الرأي أن 75 في المئة من المكسيكيين يؤيدون احتلال الولايات المتحدة لبلادهم! كما أن المكسيكيات يتعمدن إلقاء أنفسهن على الحدود الأميركية ساعات الولادة، أملا في الجنسية الأميركية!

الولايات المتحدة لا تعمد إلى احتلال المناطق الاستراتيجية بالمصالح الأميركية، بل هي في الغالب تعمد إلى صناعة وتحقيق وإبقاء نظم سياسية متحالفة تضمن النتائج السياسية والاقتصادية المرجوة، الولايات المتحدة لا تتدخل عسكريا، إلا في الحالات التي تمثل "استحالة الحل الدبلوماسي"، وهي في الغالب لا تبحث عن صناعة ولايات جديدة، ولا يمكننا أن نلصق بالولايات المتحدة "خاصية صناعة ولايات أميركية جديدة".

لا تعتمد الولايات المتحدة على التوسع الجغرافي، لكنها تسعى إلى عقد المزيد من التحالفات الاقتصادية والسياسية، وعلى السيطرة المباشرة على المؤسسات الكونية السياسية منها والاقتصادية على حد سواء، هذا ما يجعل منها في كثير من المواقف واللحظات التاريخية تشتغل بأيدي الآخرين نحو تعزيز سلطتها الكونية. هذا السلوك الإمبراطوري "كتشكيل سياسي" يحتاج إلى دراسات اجتماعية أكثر عمقا، حتى نستطيع التعرف على حدود هذا التشكيل وديناميكيته السياسية بدقة.

التشكيل الفلسفي والمعرفي: أبناء المعرفة وحماة الإنسان

صادق جواد سليمان في إحدى مقالاته المهمة بعنوان "البعد الفلسفي في الخبرة الأميركية" كتب لنا "ندرك أنه عندما نعت هذا المهجر الأميركي بالعالم الجديد لم يعن ذلك انفصاما عن العالم القديم، ولا انقطاعا عن مساقه الحضاري، بل عنى نشوء وضع جديد لحال إنساني قديم ترابط وتمازج تاريخيا عبر ثقافات وحضارات متنوعة الفكر والعرف...".

لابد من متابعة سياق التمثلات الفلسفية في التجربة السياسية الأميركية بعناية فائقة، وهو ما أعتقد أنه تمثيل لأحد التشكيلات السياسية والاجتماعية الأميركية، ثمة فلسفة ومعرفة وتجربة إنسانية أميركية ذاتية، صاغتها الكانطية باقتدار، وأسسها وليم جيمس، وتشارلز بيرس وغيرهما الكثير ممن صاغوا الكثير من المفاهيم السياسية الحديثة، والتي تقف البراغماتية على رأسها.

في "الديمقراطية في أميركا" كتب الفرنسي ألكسي دي توكفيل، "أن الأميركيين أقل الأمم اكتراثا بالفلسفة، مع ذلك، فهم يفكرون ويتصرفون وكأنهم ينطلقون من رؤية فلسفية مشتركة: إنهم لا يرون لأنفسهم حاجة إلى أخذ الفلسفة من الكتب، ولا لتأطيرها نظريا، ففلسفتهم فيهم، يعيشونها في واقع الحياة. مع ذلك، هنالك معالم فلسفية معينة يمكن تشخيصها في مسلك الأميركيين. إنهم يعزفون عن العادات والتقاليد، عن المسلمات الموروثة في الأسر، عن التعميم في الرأي، ولحد ما أيضا، عن التحيز ضد الآخر على أساس المنشأ الوطني. في المقابل، هم يتعاملون مع التقاليد كصيغ اجتماعية تخبر عن رؤى أجيال خلت، ويتخذون من الحقائق السائدة جسرا إلى اكتشاف حقائق جديدة تؤدي إلى ابتكارات أحسن. مرجعيتهم في تقصي الأمور وفهمها ذاتية بحتة، تركيزهم على النتائج يطلق اجتهادهم في ابتكار الوسائل، واهتمامهم بالجوهر يبعث لديهم اعتناء بالشكل".

* كاتب بحريني

إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"

العدد 1090 - الثلثاء 30 أغسطس 2005م الموافق 25 رجب 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً