العدد 1090 - الثلثاء 30 أغسطس 2005م الموافق 25 رجب 1426هـ

الفساد بوصفه مرضا عضالا

سكينة العكري comments [at] alwasatnews.com

الفساد قضية عالمية، موجود في جميع أنحاء العالم ضمن درجات ونسب متفاوتة، إذ تتعامل معها جميع الدول بشكل أو بآخر، إلا أن الدول التي أثبتت إرادتها السياسية وأصرت على القضاء على الفساد بدأت تجني ثمار الاقتصاد العالمي بعد أن كان الفساد يؤدي إلى تآكل قدرتها التنافسية باعتباره مرضا عضالا يضر بالمؤسسات، والبحرين على رغم صغر رقعتها الجغرافية وعلى رغم قلة كثافتها السكانية إلا أنها تعج برائحة الفساد بأنواعه.

فالفساد بمعناه البسيط جدا هو عملية سرقة لثروات الوطن، إذ إنه يسرق من المواطنين قدراتهم وطاقاتهم الكامنة كما يسرق منهم طموحاتهم وتطلعاتهم وآمالهم نحو مستقبل أفضل وتعليم أحسن ورعاية صحية أشمل وقدرة أكبر على الحصول على احتياجاتهم الأساسية من مسكن وطعام ومياه وغيرها من ضروريات الحياة، كما يؤدي الفساد إلى إهدار سيادة القانون وزعزعة المؤسسات القائمة وإلى انتشار الجريمة بأنواعها وتهديد الأمن العام.

أكد تقرير نشرته ةح ةمفىف في ابريل/ نيسان 2001 العلاقة الوثيقة بين الفساد والقدرة التنافسية للاقتصاد، وتشير الدراسة بشكل مختصر إلى أن الفساد بالاشتراك مع عوامل أخرى يقلل من قدرة الدولة على تأسيس قدرتها التنافسية والمحافظة عليها، كما تشير الدراسة إلى أن الفساد له كلفة، وأن العجز عن المنافسة يدخل ضمن هذه الكلفة، فالفساد أكبر من أن يكون مجرد مسألة اقتصادية، بل إن تصنيف الفساد على أنه مسألة اقتصادية يعتبر تقليلا من تأثيره الحقيقي على المجتمع ككل، فالفساد يؤدي إلى القضاء على هيبة القانون، كما إنه يؤدي إلى انهيار البيئة الاجتماعية والثقافية، وعندما يقبل المواطنون الفساد كأسلوب من الأساليب المتبعة في العمل وطريقة سهلة للحصول على مزايا في المجتمع يبدأ النسيج الأخلاقي المجتمعي في الانهيار والتفكك، ويمكن قياس كلفة الفساد من تركيزه للثروة في أيدي فئة معينة تجيد أكثر من غيرها استغلال الأنشطة التي لا تتسم بالشفافية.

ولعل أفدح ما للفساد من كلفة هي إشاعة روح اليأس والإحباط بين أبناء المجتمع، ويتفق علماء الاجتماع على أنه كلما ضعف الأمل لدى الفرد انخفضت معه قدرته على المبادرة، وعندما تنخفض المبادرة يقل الجهد المبذول، وعندما يقل الجهد يقل عندها الانجاز، ومن دون إنجاز يتوارث الناس الإحباط واليأس جيلا بعد جيل وبالتالي الطامة الكبرى.

وفي كثير من البلدان يعمل الفساد على تآكل الوظائف العامة الأساسية ونوعية الحياة اليومية، كما أن الرشوة على سبيل المثال تعتبر على نطاق العالم بمثابة جريمة لكنها تعكس أيضا مشكلات اقتصادية اجتماعية تتطلب إجراءات وقائية ذات قاعدة عريضة ومشاركة المجتمع بأسره ففي كثير من البلدان يقوم أصحاب المصالح الخاصة بابتزاز السياسيين وموظفي الدولة وشرائهم بالمال لتشويه البيئات القانونية والسياسية والتنظيمية لتتلاءم مع مصلحتهم الخاصة، وغالبا ما يكون التمويل من المال العام غير كاف، كما أن اعتماد السياسيين على المساهمات المالية لنفر قليل من أصحاب النفوذ الاقتصادي يشوه السياسات العامة وينمي نزعة التكالب على السلطة، وقد نجحت المنظمات غير الحكومية ببعض البلدان في لفت نظر الرأي العام إلى هذه المسألة وساعدت على إحداث إصلاح تنظيمي وهنا في البحرين هناك محاولات ولكنها من دون الطموح وتحتاج إلى مزيد من الشحنات الايجابية.

وطبقا لمواد معاهدة الأمم المتحدة لمكافحة الفساد يمكن تجريم الفساد بعد وقوعه لكن ينبغي قبل كل شيء العمل على منعه، وقد خصص فصل كامل من المعاهدة لمنع الفساد بإجراءات توجه إلى كلا القطاعين العام والخاص وتشمل هذه الإجراءات سياسات نموذجية مثل إنشاء أجهزة لمكافحة الفساد وتعزيز الشفافية في المؤسسات كافة.

ويتطلب منع الفساد العام وفقا للمعاهدة أن يبذل جميع أعضاء المجتمع جهدا في سبيل ذلك، ولهذا السبب تدعو المعاهدة الدول إلى تشجيع مشاركة المنظمات غير الحكومية التي لها قواعد مجتمعية إلى جانب عناصر المجتمع المدني الأخرى وشحذ الوعي العام بالفساد وما يمكن أن يفعل لمنعه، وفيما يتعلق بالتجريم تتطلب المعاهدة من الدول أن تحدد مجموعة واسعة من عمليات الفساد باعتبارها أعمالا جنائية أو أية مخالفات أخرى إذا لم تكن تعتبر كذلك بموجب القانون المحلي وفي بعض الحالات تلزم الدول قانونيا بتحديد عمليات فساد كمخالفات جنائية وفي حالات أخرى ونتيجة لاختلاف القوانين المحلية يتعين عليها أن تبحث اتخاذ هذه الخطوة، كما تتناول المعاهدة قضايا التعاون الدولي لمكافحة الفساد والنص على استعادة الأصول والثروات المنهوبة كما يحدث في كثير من الدول النامية، إذ يؤدي انتشار التصرفات الفاسدة واللاأخلاقية بين الموظفين إلى انخفاض ثقة الناس في قدرة الحكومة على القيام بعمل "جيد" وتحقيق المصلحة العامة. وقد يكون من السهل الوصول إلى فهم متزايد لأسباب الفساد وتداعياته، إلا أنه من المؤكد أن إحراز التقدم في مكافحته يعد أمرا أكثر صعوبة.

في كثير من البلدان في مختلف أنحاء العالم، إذ تزداد أعداد الشعوب التي تطالب حكوماتها بتحطيم دائرة الفساد وإدخال إصلاحات حقيقية وتطبيق مبدأ المساءلة وصولا إلى حياة أفضل للجميع، لقد بدأ صبر الشعوب ينفد أمام الفساد الذي استشرى في كل مكان، ونتيجة لذلك، تعترف دول كثيرة وبصفة متزايدة بقوة صوت الجماهير وتأثيره على مكافحة الفساد، وبدأت الدول في الآونة الأخيرة تتحرك "ولو بالكلام على الأقل" لمعالجة الجذور الأساسية، وبدأت مجموعة لا بأس بها من الدول تستجيب لهذا النداء وتقوم بعمل إيجابي لمكافحة الفساد.

ويمكن تلخيص المبادئ العامة التي وضعتها إدارة الولايات المتحدة الأميركية لدبلوماسية مكافحة الفساد في: "1" وضع أعراف مقبولة دوليا فيما يتعلق بتحديد الفساد. "2" تشجيع قيام الحكومات بعملية تقييم ذاتي فيما يتعلق بالفساد الداخل في نطاق حدودها. "3" الاعتراف بأن الفساد يمثل عقبة أمام التنمية وأن له مضاعفات محلية ودولية خطيرة. "4" زيادة التعاون الدولي.

إن مبادئ النجاح أو "الدروس المستفادة" التي تمثلت في السنوات الأخيرة في الاتفاقات الدولية الملزمة مثل اتفاق الأميركتين لمكافحة الفساد واتفاق المجلس الأوروبي للقانون الجنائي بشأن الفساد، واتفاق مجلس التعاون الاقتصادي والتنمية ضد الرشوة لا تقتصر على مجرد حث الحكومات على تجريم مختلف أشكال الفساد، ولكنها تبرز الحاجة إلى وجود قوى محايدة في مجال التحقيقات والمتابعة القانونية والقضائية لكشف الفساد العام واستئصال جذوره، هذه المبادئ تساعد الحكومات على سن قوانين تفرض عقوبات وجزاءات رادعة على سوء استخدام المناصب العامة من أجل المصالح الشخصية، وتسلط الأضواء على الضمانات الأساسية الداخلية التي تؤثر على سلوك القطاع الخاص ومنها الاحتفاظ بإطار تنظيمي يكشف المخالفات القانونية وعمليات الاحتيال التي ترتكبها الشركات، كما تحدد الإجراءات الوقائية الأخرى التي يمكن أن تساعد الموظفين من المحافظة على مستوى عال من السلوكات وتجنب صراع المصالح وتقوية الرغبة في الإفصاح المالي عن الأصول الشخصية.

على الصعيد الآخر، لا شك أن على القطاع الخاص مسئولية يجب أن يتحملها تجاه مكافحة الفساد، ولابد أن يكون قدوة لغيره بأن يجعل الممارسات العادلة والشفافة هي السبيل لإنجاز تعاملاته، ويجب أن يكون السلوك الأخلاقي والعمليات الشفافة هي القاعدة وليست الاستثناء، ولهذا السبب لابد له أن يلعب دورا خطيرا وطويلا في مواجهة الفساد.

وأهم طريقة لمشاركة القطاع الخاص في مكافحة الفساد هي بطبيعة الحال العمليات العادلة والشفافة التي تشمل أخلاقيات العمل بالإضافة إلى ذلك لابد للقطاع الخاص ومعه وسائل الإعلام من المطالبة بمساءلة أولئك الذين لا يطبقون القواعد سواء أكانوا من المسئولين الحكوميين أو من مديري الشركات، كما تلعب جمعيات الأعمال دورا لا يستهان به في مجال مكافحة الفساد، إذ يمكن لجمعيات الأعمال أن توجد نظاما للمساءلة وأن تواصل الضغط لإدخال إصلاحات السوق التي تقضي على الفساد، وإذا أرادت الدولة أن تحد من الفساد فلابد لها في المقام الأول أن تقضي على الأسباب التي تؤدي إلى الفساد وخصوصا انعدام الشفافية وعدم الالتزام بإصلاحات السوق، المطلوب مبادرات أكبر لمكافحة الفساد من خلال تعزيز دور مؤسسات المجتمع المدني وبناء قدراته في هذا المجال، فثمة مؤشرات متنامية إلى أن جهود بعض المنظمات غير الحكومية في رصد حالات الفساد والدفاع عن المجتمع إزاءها قد بدأت تؤتي أكلها من حيث فضح الممارسات الفاسدة وتعبئة الرأي العام للضغط في سبيل وضع سياسات قوية لمكافحة الفساد فإلى مزيد من الجهود المخلصة حيال مكافحة الفساد التي بدأ يخنقنا في كل مكان نكون فيه.

* كاتبة بحرين

إقرأ أيضا لـ "سكينة العكري"

العدد 1090 - الثلثاء 30 أغسطس 2005م الموافق 25 رجب 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً