بعد سنة وتسعة شهور قضاها في البحرين، كتب الزميل عارف العبد مدير تحرير صحيفة "الميثاق" في 20 أغسطس/ آب الجاري مقالا وداعيا امتدح فيه تجربته في البحرين وازجى لنا نحن البحرينيين تحيات وافرة.
أعجبه اننا لا نستخدم أبواق السيارات "على العكس من لبنان الذي قد تستعمل فيه المسدسات والبنادق في أحيان نتيجة خلاف بين السائقين". وزاد بالقول "إنني معجب بتهذيب سكان هذه الجزيرة الفائق".
لكن امرا واحدا لم يفهمه الزميل العبد: "... لكن على رغم ذلك ، فإن شيئا لم أفهمه "..." ان كل قرية في البحرين تملك موقعا الكترونيا. وان كل مجموعة تشكل ناديا أو جمعية لدرجة ان تعدد الجمعيات والأندية قد يوازي عدد العائلات وليس القرى".
اذا ما تعلق الأمر بالإنترنت والمواقع، فإن الملاحظة قد لا تبدو مزعجة كثيرا لأن يكون لكل قرية موقع على الشبكة، في هذا مؤشرات إيجابية أكثر من السلبية. انتشار الإنترنت واستخدام الكمبيوتر مؤشر ايجابي على الدوام. عدا ان الملاحظة هنا عندما تمضي أكثر لتشمل الأندية والجمعيات، أي الطور الارقى "نظريا" للحس الاجتماعي لدى البشر، ستعيد تذكيرنا باهم الخواص التي يتميز بها البحرينيون: التشظي والتجزيء و المقاسات الصغيرة.
اذا ما تعلق الأمر بالأندية، تذكروا فقط المطلب القديم بدمج الأندية. فاندية البحرين التي تأسسست دوما باعتبارها اندية احياء، لم تعد تلبي شروط البقاء لا من زاوية الاقتصاد ولا من زاوية تطوير المهارات الرياضية. فهذه الأندية لصناع القرار تمثل عبئا على الانفاق ومنطق الحساب بسيط: كلما تزايدت الأندية كلما صغرت انصبتها من الموازنات إلى حد الاهمال والتأخير أيضا.
لكن الحكومة وهي توالي الشكوى طيلة سنوات من تعدد الأندية في المنطقة الواحدة والحاحها على الدمج لم يترجم على الأرض. واذ شرعت في بناء بضعة أندية نموذجية، فإن الحاجات المتزايدة للشباب باتت تستدعي صيغا اخرى: مراكز شبابية نموذجية في كل محافظة مثلا. واذا مضينا في التفصيل أكثر والتركيز على أهداف نوعية أكثر، ستقترح علينا أرقام الكثافة السكانية وتعدد مجالات اهتمامات الشباب ان المركز الواحد قد لا يكفي احيانا بل ان الحاجة قد تتطلب مراكز نوعية.
كل هذا وحال التشظي هذه قائمة، وحتى الآن لا تقدم الخطط في مجال الرياضة والشباب الكثير من الأجوبة والحالات.
ومنذ ثلاث سنوات، رحنا نختبر حال التشظي هذه في كل الميادين. وهي اذا ما وضعت في اطارها الطبيعي فلربما يقدم البعض تفسيرا مطمئنا باعتبارها انعكاسا لواقع يحياه البحرينيون. وربما يضيف آخرون مقاييس مطمئة اخرى: تعكس تعددية المجتمع. لكن ضمن هذا السياق بالضبط ينبع التساؤل عما اذا كان هذا العدد الكبير من الجمعيات العاملة في الحقل الواحد يحمل مؤشرات طبيعية أم يعبر عن مبالغة.
ضعوا التنوع والتعددية جانبا وتذكروا الأعراض الجانبية. وفي مثال جمعيات حقوق الإنسان مثلا وجدنا ان هذا التعدد افضى بنا إلى احتمالات خطرة: إما ان يكون لنا سجل مخز في حقوق الإنسان يضعنا في مصاف أنظمة أميركا الجنوبية في سبعينات القرن العشرين، وأما ان الانتهاكات مستمرة بحيث لا تستطيع جمعية أو اثنتان التصدي لها.
أما في ميدان السياسة، فها نحن نرى ان هذا التعدد والتشظي اوجد لنا العشرات منها، لكن الثمار لم تزد على انعدام الفاعلية.
اعجب الزميل عارف العبد بتهذيبنا واخلاقنا وقبل الزميل العبد، كان صديق لبناني آخر عمل في البحرين أربع سنوات في الثمانينات من القرن الماضي خرج بانطباعات تستحق التوقف.
كان أول ما استوقفه الهدوء التام الذي يسم الحياة اليومية. كان جديرا بهذه الملاحظة وهو الاتي من لبنان الغارق في حربه الأهلية في ذلك الوقت. عندما وطأت قدماه أرض البحرين للمرة الأولى استوقفه هذا "الهدوء" أو "الرواق" على حد تعبيره وعندما ودع الجزيرة خرج باكتشاف آخر: "طيلة أربع سنوات لم اشاهد مشاجرة في الشارع".
هذه الملاحظة الأخيرة ستتكفل بها الآن أخبار الحوادث التي تطالعنا بها الصحف بشكل شبه يومي منذ عامين على الأقل. سرقات مسلحة على المصارف ومحطات البترول، عمال أجانب يقذفون باجنبي آخر من عمارة، حوادث شجار واقتحام للمنازل.
ثمة فارق بين البحرين في الثمانينات وفي السنة الخامسة من الألفية الثالثة طبعا. والخلاصة ان معايير الأخلاق والصواب والخطأ تغيرت كثيرا، لكن بقي أمر واحد لم يتغير: المقاييس الصغيرة في كل شيء. ومعها تراجع الهدوء الذي لفت نظر صديقنا في الثمانينات وأصبح البحرينيون أقل "رواقا"، بل باتوا يحنون اليه
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 1089 - الإثنين 29 أغسطس 2005م الموافق 24 رجب 1426هـ