حوادث الأسابيع الأخيرة غطت على قصة ثقافية لها تأثير أعمق من شخوصها، واعني بها موضوع سيد القمني الكاتب المصري، التي أصبحت معروفة لمن يهمهم الأمر، وهناك عدد من الكتاب تناولها في الأسابيع الماضية، ولكنها اختفت عن المجريات على رغم أهمية رمزيتها لتفسير ما يجري حولنا مما عرف اليوم بالمعركة الثقافية المحتدمة. .. بعض المعلقين كان مشمئزا مما أقدم عليه سيد القمني إذ أعلن تراجعه عن كل أفكاره نتيجة تهديد تنظيم "الجهاد" وبعضهم الآخر متفهم لما قام به، وكلا الحكمين ينتميان إلى المواقف "السياسية" لا الأخلاق الفكرية. مما قرأت من كتب سيد القمني فإنها لا تخرج في التحليل الأخير عما كتبه بعض الكتاب العرب في نصف القرن الماضي، من حسن حنفي حتى عبدالعزيز الدوري، وفي جلها رجعت إلى كتب الأقدمين، والاحتجاج عليها في صلبه لا يخرج عن مدخلين اما الجهل بالشيء، أو الابتزاز السياسي.
إلا أن الأسبوع الذي تلاه جاء لنا بشيء إضافي في قضية سيد القمني التي اعتبرها قضية ثقافية عربية قبل أن تكون قضية تمس شخصا بعينه. فقد أعلنت "الجهاد" مرة أخرى أن القمني فعل خيرا في تراجعه العلني، حتى لا يلقى مصير ما لقيه سابقه الصحافي رضا هلال الذي شغل اختفاؤه الوسط الثقافي العربي لفترة، ولايزال ذلك الاختفاء غامضا حتى جاء "الجهاد" مرة أخرى ليعلن فخرا أنه قتله، فحتى لو كان ذلك ادعاء محضا فان له تأثير الفعل ذاته لدى العامة!
عمليات القتل أو التصفية كشفها ولاشك من مهمات رجال الأمن، أما مسائل الفكر والاختلاف حوله، فهي من صلب اهتمام الكتاب العرب مهما تنوعت وجهاتهم الفكرية أو اختلفت، فالحجر على الكاتب، أي كاتب، هو حجر على المجتهد الذي لم توافق أي ثقافة في الدنيا لا القديم منها أو الحديث، وهي تروم التقدم، على تبريره أو فرضه.
لقد ابتذلنا في تاريخنا المعاصر أشياء كثيرة، وأولها مفهوم "الجهاد" ويبدو أننا سلمنا بأن مفهوم الجهاد هو ما يذهب إليه القتلة والأشرار من تفسير، وهو غير ذلك قطعا، فالحرب في الثقافة العربية هي الحرب، والقتل هو القتل، أما الجهاد فهو شيء مختلف أعمق واخطر، لا يجوز تعميم معانيه عن جهل، ولو كان معناه حصرا هو القتل والإرهاب لما انتشر كواحد من المصطلحات المرغوبة في ثقافتنا العربية، وكأحد أحب الأسماء التي تطلق على البشر في اللغة العربية، ومعناه الحقيقي يذهب إلى الخير والبناء لا القتل والهدم.
"فالجهاد" التنظيم أو عدد من التنظيمات المشابهة سرق المعنى وحوله إلى شيء آخر مناقض له تماما. وأن قبلنا أن التهديد لسيد القمني الذي صدر من "الجهاد" أو ادعاء قتل رضا هلال بأنه "جهاد" فإننا نقع في المحظور.
الاختلاف الثقافي أو السياسي، أو ما كان يسمى في السابق الاختلاف "الفقهي" أي "الفهمي" للنصوص يصل إلى حد القتل أو التهديد عند الخلاف حوله في المجتمعات الراكدة والمتخلفة، ويتبناه قاصرو الحجة، ولقد كانت أكثر معارك الشيخ محمد عبده ضراوة هي نتيجة لفتوى "القبعة" إذ استفتاه عامل زراعي مسلم من جنوب إفريقيا عن اعتمار القبعة الغربية في أثناء عمله المضني تحت أشعة الشمس، فأفتى له الإمام بجوازها، ولم يسلم من طاقم "الجهلة" وضعاف الحجة والعقل وقتها، وأضاع وقتا جوهريا في الرد ورد الرد، حتى أن بعضهم وصل إلى قرب إباحة دم الإمام بسبب فتوى القبعة هذه. نذكر الواقعة لنرى كم هي تافهة بعض القضايا المختلف عليها اليوم، وهي ليس ما عرف من صلب الإسلام، كما أنها مثال تعددت أوجهه في الكثير من المجتمعات العربية، كتحريم لبس البنطال أو التعليم المشترك أو حقوق المرأة السياسية، وهي ليست على خلاف قطعي مما عرف من النصوص، ولكنه الجهل الذي تخلصت منه أمم كثيرة، ويبدو انه يلد نفسه في بعض مجتمعاتنا العربية الإسلامية.
ذلك ليس بجديد على الصراع الفكري ولكنه قديم قدم قول جاليليو الذي يصفه التاريخ بأنه "أب العلم الحديث" بعد أن قال بعكس ما كانت الكنيسة الكاثوليكية تعتقد به وهو قديم ومنحدر من الزمن الماضي، بأن الأرض مركز الكون، فهو قال بدورانها، وبعد إحدى محاكماته الأولى اقر أنه مخطئ في فهمه، فلما خرج من محكمة الأب المتشدد لورني، قال بمجرد خروجه قولا أصبح مشهورا في تاريخ الثقافة العلمية، ولكنها تدور! طبعا.
جرم جاليليو بعد ذلك وحرق، وبقى علمه الذي نفع البشرية حتى يومنا هذا، دليلا على ضيق فكر ورؤية من حاكمه في تلك المحاكمة المشهورة سيئة الذكر، ومن هنا أيضا فان كتب سيد القمني وكتب رضا هلال، ستبقى من ممتلكات الإنسان تراجع القمني عنها أو لم يتراجع، أقر بخطأ أم أصر على صواب، وكم هي ضيقة نظرة فقهاء القتل، كما كانت ضيقة نظرة الأب لورني الذي حاكم جاليليو.
قتل المثقفين في عالمنا العربي المعاصر أو تهديدهم بالقتل أصبح ممارسة يومية، وأكاد أجزم أن متابعة سيرتهم وأسباب قتلهم أو تهديدهم يمكن أن تشكل أطروحة دكتوراه غنية بالتحليل والمعلومات عن الممانعة الفكرية التي يتسم بها عصرنا لكل ما تعتبره مجموعة ما مخالفا لفكرها، والقائمة ولاشك طويلة: رياض طه، حسين مروة، عبدالوهاب ألكيالي، ناجي العلي، فرج فوده، عبدالعزيز السقاف، باقر الصدر، شفيق الكمالي، وأخيرا سمير قصير وجورج حاوي، وقبل ذلك طه حسين وعلي عبدالرازق. وعلى مقلب آخر أولئك الذين استهدفهم الظلاميون في الجزائر منذ أكثر من عقد، كانوا جميعا حملة قلم لا حملة سلاح، وهي قائمة طويلة تكاد تأخذ نصف المجتهدين العرب في القرن العشرين، عدا من سجن وعذب أو جرت محاولة لشطبه من الحياة طوعا أو كرها.
هذه الظاهرة هي التي مهدت للإرهاب الذي يستفحل بين ظهرانينا اليوم، وهو أمر يعرفه الجميع إذ الإرهاب يبدأ في الأساس من الفكر وأي فكر يناهضه هو عدوه الأول. ولعل التجربة الإنسانية المعروفة في القرن العشرين، وهي تجربة الفاشية والنازية التي تسببت في قتل آلاف البشر بأفضل ما توصل إليه البشر من سلاح تدمير. لقد بدأت النازية كفكرة تسامى عرقها على الأعراق البشرية الأخرى في عقل الألمان، ثم تحولت إلى آلة جهنمية لقتل البشر. والادعاء بملكية الحقيقة المطلقة هي نوع من الفاشية الكريهة، فما بالك إن كان هذا الادعاء فاسدا بالضرورة والعقل.
والوقوف أمام تهديدات سيد القمني أو الادعاء بتفاخر بمقتل رضا هلال دون صيحة استنكار من المؤسسات المدنية العربية، ومن المؤسسات السياسية، هو وقوف سلبي في وجه موجة متطاولة أن بدأت كما هي بالمثقفين وأصحاب الرؤى تنتهي بتفجير الفنادق والمنتجعات والمنازل، وتجد من يبررها في الشارع المسلوب لقدرة النقد.
يستطيع القمني أن يعتزل ويتراجع، ويستطيع "الجهاد" أن يدعي قتل رضا هلال أو غيره من الكتاب، ولكنه لا يستطيع أن يقف حجر عثرة في تقدم الشعوب، وقدر المثقفون العرب في هذا العصر أن يقدموا التضحيات تلو التضحيات، ولكن كتب القمني ستبقى كما بقيت كتب نجيب محفوظ، كما انتفت دلالات معركة القبعة ولم يعد لها ذكر في تاريخنا المعاصر، وستبقى الأرض تدور مهما كان حكم الجهل عليها فهي تدور وتدور.
* كاتب كويتي
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 1089 - الإثنين 29 أغسطس 2005م الموافق 24 رجب 1426هـ