في لقاء صحافي كانت تجريه محطة "سي. ان. ان" مع ناطق اعلامي في الحكومة العراقية اسهب الناطق في شرح تفصيلات الخلافات بين الفرقاء على الدستور وبدأ بتوضيح نقاط المشكلات واستطرد خارج الموضوع وتفلسف كثيرا الأمر الذي استدعى الصحافي إلى مقاطعة الناطق طارحا عليه السؤال الآتي: انتم تختلفون على الجزئيات في وقت يقتل أولادنا وجنودنا في العراق ونحن نمول الحرب وندفع الضرائب من أجلكم؟
السؤال مفاجأة وهو يميل إلى طرح اجوبة على معضلة بدأت تثير النقاش في الوسط الاعلامي الأميركي. الناطق الرسمي العراقي احمر وجهه وارتبك من الصفعة التي وجهها اليه الصحافي في محطة تعتبر صديقة لنظام الحكم ومن الأجهزة التي لعبت دورا في تجميل العدوان على بلاد الرافدين. إلا أن الناطق استدرك الموضوع وتابع في شرح وجهة نظر الحكومة في لحظة ظهر الصحافي وكأنه غير مكترث بالكلام ولا بالشروح النظرية التي اسهب الاعلامي العراقي في تفصيلها.
هذا المشهد يلخص كثيرا تلك الألوان السياسية التي أخذت تنمو في الوسط الاعلامي الأميركي... وبعض تلك الألوان بدأ يعبر عن معارضته للحرب وتبرمه من تلك النتائج المخزية التي وصل اليها العراق بعد الاحتلال.
التبرم والانزعاج والملل من تلك المشاهد التي تنقل يوميا من بلاد الرافدين هي بداية نفسية لمجموعة تداعيات سياسية يتوقع نموها في الشارع الاميركي في حال استمرت الاحباطات وتواصلت المقاومة وفشلت القوى المعنية والفاعلة على الارض في تقديم بديل واقعي وموضوعي عن تلك الخدمات التي يدعي الاحتلال انه يقدمها مجانا للعراقيين.
المواطن/ الناخب ودافع الضرائب الأميركي بدأ يدخل منطقة الملل والتبرم والانزعاج من تلك الحكايات التي لا تنتهي فصولها. وهذه اخبار سيئة للإدارة الأميركية التي اعتبرت انها أخذت من الناخب "دافع الضرائب" موافقة ابدية على سياستها حين فاز جورج بوش بالانتخابات الرئاسية ضد منافسه المتردد والمشوش الذهن جون كيري.
بداية التبرم اثارت قلق وزير الخارجية العراقي أيضا وسجل ملاحظاته على هذه المسألة خلال جولة قام بها في الأسبوع الماضي إلى دول أوروبية. فالوزير هوشيار زيباري لاحظ ذاك الفارق بين تلك الاستقبالات التي كانت العواصم الأوروبية تنظمها له ولغيره وبين اللقاءات الفاترة التي لفتت نظره حين اراد تسويق قضية العراق في السوق الأوروبية.
هذه البدايات في تغير أمزجة الاعلام الأوروبي - الأميركي هي خطوات أولى على طريق الانقلاب الطويل الذي سيظهر على اكثر من صعيد في أوروبا والولايات المتحدة. فالاعلام الحر والمستقل "ولو جزئيا" هو مرآة السياسة في أوروبا وأميركا ومنه ترتسم ملامح الأجواء والمشاعر وتعبر عن نفسها في الصوت والصورة، ومنه أيضا تظهر التسريبات والمعلومات وتبدأ بالتساقط إلى ان تنهمر الآراء وتؤسس لانهيار عام يعلن عن نهاية مرحلة وبداية مرحلة.
انها بداية. والبداية قد تمتد وتطول إلى فترة زمنية يصعب تحديدها منذ الآن. وهذا ما حصل في فيتنام حين تحولت الحرب من مهرجانات للفرح والغناء وحفلات موسيقى قادها كبار الفنانين في فترة السبعينات إلى حملات نواح وبكاء ومشاهد متتابعة عن مأساة انتهت بتراجيديا للولايات المتحدة وفضيحة كبرى للقوى المتعاملة مع الاحتلال والمستفيدة من اقتصاد الحرب. التراجيديا تحولت في هوليوود إلى اشرطة سينمائية تقص على الناس اخبار الحرب وبشاعتها وآثارها السلبية والنفسية على المجتمع وعلاقاته الأسرية والأهلية. والفضيحة هي ان القوات الأميركية عندما غادرت موقعها الأخير في العاصمة "سايغون" تركت عن قصد في سفارتها كل الاسماء الفيتنامية التي تعاملت مع الاحتلال للتخلص منها عن طريق قوات الفيتكونغ.
ربما لا يتكرر المشهد نفسه وحرفيا في بغداد. فالعراق من الدول المهمة في الاستراتيجية الأميركية وفكرة الانسحاب النهائي والشامل غير واردة في القريب العاجل. إلا أن مسألة التخلص من المستفيدين والمتعاملين قد تتكرر وربما تضطر واشنطن إلى استبدال الاحصنة اذا وجدت في الحكومات التي استنسختها نقاط ضعف تبعث على الانزعاج والملل... كما حصل بين الصحافي الأميركي الذي تبرم من استطرادات الناطق الاعلامي العراقي الرسمي
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1088 - الأحد 28 أغسطس 2005م الموافق 23 رجب 1426هـ