اعتبرت البحرين في الفترة 3000 - 2200 قبل الميلاد محطة عبور للسفن التجارية وبني في موقع القلعة مدينة صغيرة (المدينة الأولى) لتؤدي ذلك الغرض. أما ما يخص آثار الاستيطان فهي نادرة في السواحل الشمالية بل أصبحت آثار تلك الحقبة بأكملها نادرة. ولكن هذا لا يعني بالضرورة هجرة السكان من المنطقة. يعتقد العديدون بأن إقامة السكان كانت مستمرة بلا انقطاع ولكن غياب الأثر كان لأسباب عديدة أدت لفقدانه وبذلك ضياع السجل التاريخي. ونوجز هنا أهم الأسباب التي أضاعت أثر الاستيطان في تلك الحقبة على الساحل الشمالي والشمالي الغربي وهي كالتالي:
1 - انخفاض وارتفاع مستوى البحر
ناقشنا في الحلقة السابقة تسلسل انخفاض مستوى البحر منذ القدم وحتى وقتنا الحاضر. وفيما يخص هذه الفترة فيمكننا أن نوجز تلك الأحداث كما يلي:
- 4000 - 3000 قبل الميلاد مستوى البحر يعلوا بأكثر من مترين عن مستواه الحالي وهذا يعني أن البحر كان يغطي العديد من الأراضي الساحلية المعروفة محليا وربما كان ساحل البحر قريبا جدا من قرية بني جمرة وذلك بسبب ارتفاع أرض هذه القرية والذي يقع جزؤها الوسطي فوق هضبة مرتفعة.
- 3000 - 2600 حدث هبوط لمستوى البحر بمقدار متر عما كان عليه سابقا، أي أصبح أكثر بمتر من مستواه الحالي، وهذا أدى إلى أن سكان تلك المنطقة يزحفون أكثر باتجاه الساحل فيتركون مناطقهم القديمة ويتقدموا إلى الأمام.
- 2600 - 2000 قبل الميلاد ارتفع مستوى البحر بمقدار نصف متر عن مستواه السابق أي أصبح أعلى بمقدار متر ونصف عن مستواه الحالي.
وبذلك أصبحت آثار الفترة 3000 - 2000 تحت البحر، وبنزول مستوى البحر في السنوات التالية مسحت تلك الآثار وضاعت.
2 - عوامل التعرية والتجوية
نعلم أن الرياح السائدة في البحرين هي الرياح الشمالية والشمالية الغربية وهذا يعني
- تعرض السواحل الشمالية الغربية للأمواج القوية وبالتالي تزداد عمليات النحت في الساحل والتي تغير من شكل الساحل وتنحته.
- الرياح الشمالية تنحت في الساحل وتنقل الفتات إلى أماكن أخرى، باختصار عوامل تعرية وتجوية قوية تأثر في تلك المنطقة وتؤدي إلى تحلل المستحثات بصورة أسرع من أماكن أخرى.
3 - الامتداد العمودي
نلاحظ إعادة استخدام المناطق في الأحقاب المتتالية... فعلى سبيل المثال لو نظرنا لموقع قلعة البحرين... وأن هناك خمس مدن متتالية عموديا... نفهم من ذلك أنه لو كانت هناك آثار للسكن على الساحل الشمالي الغربي لأصبحت الآن تحت الأماكن السكنية الحالية... ولا يمكننا إزالة تلك المساكن لنبحث عن الأثر القديم. وهذا ينطبق على أماكن عديدة في البحرين.
تعتبر الفترة مابين 2300 - 1800 قبل الميلاد هي فترة ذروة الازدهار في جزر البحرين. ففي تلك الفترة انخفض مستوى البحر حتى وصل إلى مستوى أعلى من مستواه الحالي بنصف متر وذلك في بداية الفترة ثم وصل لنفس مستواه الحالي في قرابة نهاية الفترة. وهذا جعل أراضي جديدة من الساحل تنكشف وقد كثرت المياه الجوفية وتفجرت عيون أخرى طبيعية، وزاد النشاط السكاني وتأسست حضارة، ويرجح أنه في هذه الفترة خصت جزيرة البحرين باسم دلمون. وبدأ ظهور حقول القبور المختلفة والتي بدأت تزداد أعدادها وتنتشر في مناطق مختلفة. وتدل المسافات بين حقول القبور على وجود محطات سكنية دائمة السكن. وهكذا أستنتج أن في تلك الحقبة بأن مدينة دلمون الرئيسية في موقع قلعة البحرين أصبحت كمركز أو كمدينة مركزية تلعب دورا كسوق مركزية يحيط بها عدد من المحطات السكنية الدائمة السكنى والمعاصرة لبعضها البعض، وظهرت المعابد كمعبد باربار، وكثر السكنى في سار وباربار والدراز ومواقع أخرى وأصبح الساحل الشمالي لجزيرة البحرين المكان الأكثر كثافة سكانية. وقد كان للزراعة ووفرت المياه دور كبير في توفير الدعامة اللازمة لنمو السكان.
ويرى الباحثون أن أكثر الأراضي الزراعية التي كانت مزروعة وتستخدم للزراعة في تلك الحقبة هي أراضي الساحل الشمالي وخاصة في المناطق المنخفضة.
لقد أدى ابتعاد شاطئ البحر إلى هجرة البعض من الأماكن المرتفعة واستقرارهم في مناطق قريبة من الشاطئ. فنلاحظ عدم وجود آثار في باربار في الحقب السابقة أما في هذه الحقبة فقد كثر السكان فيها وظهرت بها المعابد حتى أنهم أطلقوا على هذه الحقبة اسم (حقبة باربار). كذلك كثر السكان في الدراز حيث بدت الآثار أكثر وضوحا فيها.
بالطبع هناك إشارات لوفود سكان من مناطق مختلفة فقد استخدمت الجزيرة كمستودع ضخم تودع فيه البضائع التي جلبت من حضارة مكن في عمان والإمارات وحضارة وادي السند (الأندس) في شبه القارة الهندية ثم يعاد تصديرها إلى حضارات ما بين النهرين. وأدى ذلك لهجرات من الحضارات السابقة وإقامتهم في دلمون. وتشير العديد من المراجع إلى كثرة الوافدين من حضارة وادي السند. حتى أن نظام الأوزان المستخدم في تلك الحقبة هو نفسه المستخدم في حضارة وادي السند. وكذلك الأختام الدلمونية والذي يعتقد بأنها صممت عن نموذج أولي لأختام حضارة وادي السند.
وهناك إشارات أيضا تدل على اندماج جميع كتل السكان في كتلة سكانية واحدة. شعب واحد متعدد الثقافات اجتمع لكي يأسس حضارة لها ميزتها الخاصة.
وقد أصبحت مدينة دلمون الأساسية في موقع القلعة (المدينة الثانية) مركزا تجاريا مهما وأصبحت كل أراضي الساحل الشمالي أرضا زراعية تزرع النخيل وتصدر التمور إلى حضارة ما بين النهرين.
فأصبح تقسيم الأراضي على جزيرة البحرين كالتالي:
1 - منطقة عمران وزراعة مركزة (تمور وخضراوات) تقدر بنحو بدائرة نصف قطرها 2 كم إبتداء من مرز المدينة في القلعة:
2 - منطقة انتقالية يبلغ اتساعها نصف كيلومتر تلي منطقة العمران والزراعة المكثفة.
3 - منطقة الزراعة الشاملة في فترة التوسع وتشمل كل الساحل الشمالي وأجزاء من الساحل الغربي والشرقي. و تنقسم هذه المنطقة إلى قسمين:
أ - منطقة الزراعة الشاملة ويزرع بها الحبوب والمحاصيل المدارة.
ب - منطقة الزراعة الشاملة ويزرع بها الحبوب وتستخدم للرعي أيضا.
4 - منطقة الرعي.
لم تكن جزر البحرين بتلك الغنى فيما يتعلق بالمواد الخام، لكنها بدأت تستورد البضائع من حضارة وادي السند في شبه القارة الهندية وحضارة مجان في عمان، وتستخدم منها ما تحتاج إليه وتقوم بإعادة تصدير جزء كبير بعد إعادة تغليفه وختمه بختم دلمون الخاص. وبهذه الصورة تحولت لمستودع كبير. وكان تحول الجزيرة لمستودع كبير في نهاية الألفية الثالثة قبل الميلاد بمثابة انطلاقة لتطورها السريع في بداية الألفية الثانية، غير أن المظهر الوحيد لهذه التجارة التي توجد عليها وثائق مكتوبة كثيرة أنه مع بلاد بين النهرين القديمة، فقد حولت حضارة بين النهرين تجارتها مع دلمون بصورة تدريجية. وبحلول العام 2000 ق.م. لا تتحدث الألواح التي عثر عليها في حضارة بين النهرين سوى عن دلمون، والذي من المرجح أنه كان يخص جزر البحرين بالتحديد في هذه الفترة. وقد سافر تجار دلمون إلى أنحاء متعددة في حضارة بين النهرين.
مع هذا التوسع التجاري والدور الحيوي التي لعبته جزر البحرين في تلك الحقبة كان من الطبيعي أن يحدث توسع في الاستيطان، فلم تعد المدينة التي أسست في رأس القلعة كافية، وهكذا بنيت مدينة أخرى في منطقة سار. وتشير نتائج التنقيب في منطقة سار إلى أن بداية الاستيطان في نفس المنطقة التي بنيت فيها المدينة كان في حدود 2300 ق.م. بينما بنيت المدينة في حدود 1900 ق.م. وربما استمرت 200 عام أي حتى العام 1700 ق.م.
صاحب التوسع في الاستيطان توسع في المساحة المزروعة من الأراضي. وقد أدى وجود الزراعة وقنوات الري المختلفة لوجود لمياه راكدة والتي أدت إلى تكاثر الحشرات فيها ومنها البعوض الذي يحمل الطفيل الذي يسبب مرض الملاريا. وهكذا مع انتشار الزراعة انتشرت أيضا عدة أوبئة تنقلها الحشرات التي تتكاثر في المياه الراكدة وكان من أخطرها مرض الملاريا. أثرت تلك التغيرات البيئية على اتزان المحتوى الجيني للمجموعات السكانية البشرية بشكلٍ عمل على فرز وانتخاب التركيبات الجينية لهيموجلوبين الدم ذات العلاقة بمدى مقاومة الإنسان للملاريا ومنها مجموعة طفرات أحدثت تغيرات في هيموجلوبين الدم أدت لنشوء أمراض الأنيميا الوراثية (الثلاسيميا وفقر الدم المنجلي). وبما أن طفيل الملاريا يعيش على كريات الدم الحمراء السليمة، أصبحت تلك الطفرات تعطي وقاية من مرض الملاريا.
ربما نتجت بعض الطفرات المسببة لمرض الثلاسيميا في جزر البحرين، إلا أننا لا نرجح أن تكون الطفرة التي أدت لأنيميا فقر الدم المنجلي قد تكون حدثت في أوساط سكان جزر البحرين قديما، فحضارة وادي السند سبقت حضارة دلمون بسنوات طويلة وقد أثبتت الدراسات انتشار الأنيميا الوراثية في حضارة وادي السند في فترة توسعها. وكما سبق أن ذكرنا أن عددا لا بأس به من سكان حضارة وادي السند أستقر في البحرين.
والطفرات المسببة للأنيميا الوراثية يكون لها إيجابية انتقائية، فأي كان العدد الأولي للسكان المصابين بهذه الطفرات فإنها مع الزمن تصبح نسبة الحاملين لهذه الأمراض مرتفعة. وهذا ما حدث في الحقب الزمنية اللاحقة حيث حدثت غربلة للسكان عن طريق أحداث عنق الزجاجة والتي تعتبر هذه الجينات جزءا منها. وهذا ما سنناقشه بالتفصيل في الحلقة القادمة.
العدد 2421 - الأربعاء 22 أبريل 2009م الموافق 26 ربيع الثاني 1430هـ