العدد 1087 - السبت 27 أغسطس 2005م الموافق 22 رجب 1426هـ

دستور العراق... العبور إلى حروب "داحس والغبراء"

فكتور شلهوب comments [at] alwasatnews.com

أزمة ولادة الدستور العراقي الجديد، كانت من الأساس محكومة بالوصول إلى عنق الزجاجة. والانسداد الذي بلغته لم يكن مسألة صوغ أو إخراج. كان، من جهة حصيلة معضلات وكوامن التركيبة العراقية، بكل خلفياتها وتناقضاتها العميقة، المتوارثة قديما وحديثا. ومن جهة ثانية كانت حصيلة التوجهات والترتيبات والسياسات التي وضعها وترجمها الاحتلال، لخدمة أحد أهدافه الاستراتيجية من الحرب على العراق، وهو وضع البلد على سكة التمزيق والتشقيق الذاتي إذا تعذر تطويعه بالدرجة المطلوبة.

تم وضع العراق على هذه السكة من البداية، كي تكون الصيغة جاهزة لوضعها موضع التنفيذ إذا اقتضى الأمر. أولى الخطوات في هذا التوجه كانت في فرط الدولة العراقية عن عمد وتصميم، عندما قام الاحتلال بحل الجيش وتفكيك المؤسسات وتركها غنيمة للنهب والسلب المباح. ثم توالت الخطوات متسارعة وكيفما اتفق، بل باستعجال مشبوه، كان الهدف منه تركيب نواة سلطة عوجاء، تحمل بذور انفجارها بذاتها، من انتقال السلطة من برايمر إلى العراقيين إلى قانون الإدارة الانتقالي، إلى انتخابات مسلوقة للجمعية الوطنية، إذ بدأت منذ ذلك الحين ترتسم وبوضوح علامات الافتراق بين القوى والمذاهب والأعراق. بعدها جاءت الحكومة الانتقالية وأخذت المقاطعة تستفحل ومعها يزداد العزل والتفرد. جرت محاولات للاستدراك آنذاك، لكنها فشلت: في مؤتمر شرم الشيخ نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، بشأن العراق طرح اقتراح عربي لعقد مؤتمر للحوار الوطني العراقي. لكن الدعوة رفضها الأميركيون وحكومة اياد علاوي آنذاك!

على هذه الخلفية، جاءت مهمة صوغ الدستور، وكان المطلوب إنجازها في أقل من ثلاثة أشهر. الإصرار على الموعد "15/8" في ظل هذه المعطيات، كان يضمر وضع العراق أمام دستور الأمر الواقع. بالأحرى فرضه عليه، بكل الأعطاب التي تشوبه والألغام المحشوة فيه. الدساتير العصرية، خصوصا في الدول الاتحادية، تطلب وضعها وتحقيق التوافق بشأنها سنوات، علما بأن بلدانها كانت في حال سلم أو تصالح اجتماعي وليس في حال اشتعال وتناحر كما هي الحال في العراق.

دستور ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية استغرق سنتين، دستور جنوب إفريقيا 5 سنوات، حتى دستور الولايات المتحدة نفسها لم تحصل ولادته إلا بعد 8 سنوات، فكيف كان للعراق أن يأتي بدستور "اتحادي" - وهي تجربة جديدة عليه وعلى افتراض أنها غير مفخخة - في غضون شهرين ونيف؟ ثم أن المادة 60 من "قانون الإدارة الانتقالي" نصت على أن اضطلاع الجمعية الوطنية بوضع مسودة للدستور ينبغي أن يحصل بأكثر من طريقة منها تشجيع المناقشات من خلال لقاءات عامة في جميع أرجاء العراق ومن خلال وسائل الإعلام، وبالنهاية تتسلم الجمعية الأفكار والمقترحات من العراقيين العاديين لتأخذها في الاعتبار، وبذلك يأتي النص أقرب إلى التعبير عن النبض المجتمعي وهمومه وطموحاته. فلا ذلك حصل - ولا كانت المدة تسمح بحصوله حتى لو توافرت النية -، ولا الجمعية الوطنية متوافرة فيها صفة التمثيل غير المنقوص لتنهض بهذه المهمة. وبالتالي لم تتحقق ملامسة النبض العراقي العام، بحيث ينعكس في صيغة الدستور. على العكس جاءت المسودة خالية إلا من النبض العرقي والمذهبي، الذي كانت تتردد ضرباته بأشد وأوضح ما يكون، في بنودها. وتحديدا فيما يتعلق بهوية العراق ونظامه الفيدرالي المناطقي، ناهيك عن الحبك الملتبس في بعض البنود الذي ينطوي على ترك الباب مفتوحا أمام بعض مناطق البلد للانسلاخ عنه، ساعة تشاء وترى ذلك مناسبا لها. والإشارات بشأن هذه التوجهات سبقت ثم رافقت فترة كتابة الدستور. زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البارزاني، حرص في خطاب له أمام البرلمان الكردي، على التشديد بأن الأكراد لن يقبلوا بنص في الدستور يشير بوضوح إلى هوية العراق العربية. وذلك بزعم أن قسما من البلد ليس عربيا. وفعلا جاء في المسودة أن "العراق بلد متعدد القوميات والأديان والمذاهب وهو جزء من العالم الإسلامي، والشعب العربي فيه جزء من الأمة العربية". فقط المناطق العربية فيه تنتمي بهويتها إلى الوطن العربي، وليس العراق كبلد. هل من بلد له هويتان؟ ولماذا هذ التمييز والتشديد عليه لو لم تكن وراءه نوايا انسلاخية؟

في المقابل وفي الفترة ذاتها، طلعت دعوة أخرى من الجنوب لإقامة منطقة فيدرالية، على غرار الشمال الكردستاني. الأمر الذي صب الزيت على نار الانقسامات والشكوك. وبالنهاية أدت النغمة الفيدرالية - مع غيرها - إلى اختناق العملية، على قاعدة وضع ملتهب أمنيا ومأزوم مذهبيا وأمنيا. وعلى رغم ذلك، تمت إحالة المسودة المنقوصة، على الجمعية الوطنية، إدارة الرئيس جورج بوش سارعت إلى الترحيب بالإحالة. ينسجم ذلك مع إصرارها على موعد إنجاز المسودة. تماما كما فعلت مع موعد الانتخابات في يناير/ كانون الثاني الماضي ورفضت تمديده على رغم مطالبة جميع الأطراف العراقية بذلك. طبعا ليس لأن هذه المواعيد مقدسة. بل لأنها تلبي سياسة أميركية من شقين:

1- استعجال الإدارة لسحب قواتها من الميدان الأمني وتسليمه للعراقيين، مع الانكفاء إلى قواعد بعيدة عن التجمعات السكانية... وذلك لتقليص خسائرها البشرية التي بدأت تغذي التيار المعترض على الحرب والمطالب بالانسحاب، داخل الولايات المتحدة. الأمر الذي أخذ يزيد من متاعب الرئيس بوش ويأكل من رصيده المتزايد الهبوط.

2- تركيب شبه دولة تنخرها الخلافات وبما يكفل إبقاءها مفككة ومتناحرة على الأرض وبالتالي استرهان أطرافها للاستنجاد والاستقواء بالقوات الأميركية، في صراعاتها وتناصراتها مع بعضها بعضا. وإلا فلماذا الاستعجال والتمسك بالمواعيد؟ بل لماذا الصمت، إذا لم نقل التشجيع الضمني إزاء طروحات الفيدرالية المفخخة، إذا كانت واشنطن تريد فعلا إحياء عراق موحد قادر على الحياة والاستمرار؟ ثم لماذا الإعراب عن الارتياح لإحالة الدستور إلى الجمعية الوطنية، مع أن ذلك ليس سوى عملية تهريب للمشروع وسلق مراحله بأي ثمن، بصرف النظر عن التمديد المكرر لأيام، في الجمعية بزعم محاولة حل الخلافات؟ بل ماذا لو مررته الجمعية بأكثرية تمتلكها وانتقل الدستور إلى مرحلة الاستفتاء فسقط بأكثرية الثلثين في ثلاث محافظات سنية؟ هل يعاد إلى لجنة الصياغة؟ هل يصار إلى انتخاب جمعية وطنية جديدة، بدأ يدعو إليها الطرف المقاطع، كي تتولى كتابة دستور جديد؟ وإلى متى يمكن أن تتكرر هذه الدورة؟ العلة الأساسية أن الأطراف العراقية جاءت إلى طاولة الدستور بنية وبقرار، صوغ وثيقة، لا تلبي طموحاتها ومصالحها قدر الإمكان، بل جاء بنية إصرار دستور يوفر لها الممر والغطاء لإقامة كيان خاص بها، يستظل بكيان اتحادي رخو مفتوحة طريق الانفكاك عنه، عندما تحين اللحظة المناسبة.

المأساة في هذا التوجه أنه وصفة لإشعال حروب متناسلة عن بعضها، يصح إدراجها في خانة "حرب داحس والغبراء" الثانية.

*كاتب لبناني

العدد 1087 - السبت 27 أغسطس 2005م الموافق 22 رجب 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً