تعد البحرين البلد الوحيد من بلدان مجلس التعاون الخليجي الذي شهد تاريخا حافلا بحركات الاحتجاج السياسي والمطالبات بالاستقلال والإصلاح والمشاركة في صناعة القرار والحصول على نصيب وافر من الثروات. إذ بدأت هذه الحركات منذ العام 1919 واستمرت بالحركة الأخيرة التي شهدها عقد التسعينات من القرن الماضي.
ولكن هذه الحركات الكثيرة مازالت بعيدة عن التوثيق والتسجيل والدراسة من قبل المعاصرين والمؤرخين والباحثين، وبالتالي هي حلقات مفقودة من التاريخ السياسي للبحرين. فعلى رغم معرفة الكثيرين بحركة 1938 - على سبيل المثال - إلا أنه لا توجد مصادر كثيرة أو شهادات تاريخية موثقة يمكن الاستناد إليها في دراسة الحراك السياسي والمطالب التاريخية والظروف المختلفة التي شهدتها تلك المرحلة في البلاد والتي سبقت اندلاع الحرب العالمية الثانية.
من هنا تبرز الحاجة المستمرة لتوثيق حركات الاحتجاج السياسي التي شهدتها البحرين، ودراستها من الناحية الأكاديمية بهدف التعرف على أبرز تأثيراتها المستقبلية، واستخلاص أهم الدروس المستفادة منها لتطوير تفاعلات النظام السياسي البحريني.
والإقرار بأن حركات الاحتجاج السياسي هي حلقات مفقودة من تاريخ البحرين يدفعنا للقول بأن حركة التسعينات تختلف تماما عن الحركات السابقة لأسباب عدة منها:
* أنها حركة حديثة وقد عاصرها معظم شعب البحرين الحالي.
* وجود القيادات السياسية التي ساهمت في إحداث تلك الحركة أو قامت بدعمها ومراقبتها.
* تأثر معظم شعب البحرين بمجريات الحركة نظرا إلى العدد الكبير للمشاركين فيها ومدتها الزمنية التي امتدت لما يقارب الخمس سنوات.
* تطور وسائل الاتصال والمعلومات ما ساهم في حفظ أدبيات هذه الحركة المختلفة من بيانات ونشرات ومنشورات وكتب مازالت محفوظة حتى الآن.
وفي ضوء ذلك فإنه من الأهمية بمكان تناول حركة التسعينات وتحليل أبرز القضايا المرتبطة بها. ويمكن طرح ذلك في القضايا الآتية:
أولا: تسمية الحركة
هناك شبه اتفاق في الأدبيات السياسية الحالية على تسمية حركة التسعينات بـ "الانتفاضة" ويرى مؤيدو هذه التسمية أنها مبررة لأنها تعني انتفاضة الشعب البحريني من أجل نيل مطالبه الدستورية. في حين يرى آخرون أن حركة التسعينات هي مجرد "أحداث" ولا يمكن أن تتجاوز إلى أكثر من ذلك، ومبرراتهم في هذا الشأن أن الحركة لم تحقق مطالبها بالإضافة إلى عدم وجود تنظيم سياسي محدد أو هيئة معينة كانت تشرف على جميع الحوادث التي شهدتها البلاد في التسعينات، ما يدفع بالقول بأنها مجموعة من الحوادث العشوائية غير المنظمة لنيل مطالب متعددة.
وإزاء هذا التباين في التسمية فإن حوادث التسعينات لا يمكن إبعادها عن سياقها العلمي في التطور السياسي للمجتمع البحريني، وهي في النهاية عبارة عن حركة احتجاج سياسي ذات أهداف محددة وإن تفاوتت مستوياتها، واختلفت درجة تنظيمها كما أنها امتداد تاريخي لأوضاع سابقة. وعليه يمكن تسميتها بـ "حركة الاحتجاج السياسي في التسعينات"، لأنها حركة عبر المشاركون فيها عن احتجاجهم للأوضاع القائمة آنذاك، وطالبوا بتغييرها.
ثانيا: طائفية الحركة
قد تكون هذه القضية حساسة للغاية داخل المجتمع، ولكنها بحاجة ماسة إلى النقاش، والسؤال هنا هل كانت الحركة فعلا طائفية؟ أو بمعنى آخر هل كان الشيعة هم المحرك الأساسي فيها؟
ترى شرائح عريضة من القواعد الشيعية أن حركة الاحتجاج السياسي في التسعينات كانت شيعية، لأن الشيعة هم الذين قدموا التضحيات، وهم الذين تعرضوا للاعتقال والتشريد والنفي وقدموا التضحيات من أجل تحقيق مطالب الحركة، وهو ما دفعهم لممارسة عدة أشكال من العنف تعبيرا عن احتجاجهم وسعيا للضغط من أجل نيل مطالبهم.
وفي الوقت نفسه قد تتفق فئات عدة من القواعد السنية على الطرح الشيعي، والسبب في ذلك ابتعاد السنة عن حوادث التسعينات، وتحفظ بعض النخب والقواعد على الأساليب التي انتهجت خلال الحركة، وخصوصا أسلوب العنف وتخريب الممتلكات العامة والخاصة التي خلقت شكلا من أشكال الرفض العلني. بالإضافة إلى استخدام أساليب الدعم الخارجي كوسيلة ضغط ضمن الأساليب المتبعة، وهو ما كان له تأثير سلبي كبير على شعبية الحركة، ودليل ذلك المخاوف الكبيرة التي أبداها السنة عندما أعلنت السلطات الأمنية عن اكتشاف تنظيم "حزب الله - البحرين" خلال منتصف العام ،1996 ما أفقد الحركة صدقيتها أمام السنة بعد أن اقتنعوا بطائفيتها.
والنظرة الموضوعية لحوادث الحركة وطبيعة الظروف التي صاحبتها آنذاك تشير إلى طرح مختلف، وهي أن الحركة لم تكن طائفية البتة - خصوصا في بواكيرها - وإنما ساهمت عوامل عدة في خلق هذه الصورة النمطية لحركة الاحتجاج السياسي في التسعينات.
فخلال إرهاصات الحركة تم استخدام أسلوب العرائض "العريضة النخبوية ثم العريضة الشعبية" ولم يكن توقيع هاتين العريضتين مقتصرا على النخب والقواعد الشيعية فقط، بل لقد شارك فيهما نخب وقواعد من السنة أيضا. ولكن أبرز العوامل التي خلقت الصورة النمطية السلبية عن طبيعة الحركة النهج الذي لجأت إليه المؤسسة الأمنية عندما حرصت على قمع قيادات وقواعد الحركة من الطائفة الشيعية، وتجاهلت نظرائهم من الطائفة السنية، وبمرور الوقت خلقت فكرة عززتها بجهود إعلامية كبيرة بأن الاضطرابات التي تشهدها البلاد هي من فعل الشيعة ويجب التصدي لها. كما حرصت على تعزيز ارتباط السنة بالسلطة بوسائل عدة.
ثالثا: نتائج الحركة
على رغم الاتفاق على مطالب حركة الاحتجاج السياسي في التسعينات والتي تمثلت في تفعيل مواد الدستور وإعادة الحياة النيابية، إلا أن نتائج الحركة بحد ذاتها تعد قضية. فهل يمكن القول بأن هذه الحركة هي التي قادت إلى الإصلاحات السياسية لاحقا مع بداية الألفية الجديدة؟
بالنظر إلى السياق التاريخي للحركة فإنه من الصعوبة بمكان القول بأن الحركة حققت أهدافها، وأن الإصلاح السياسي الذي شهدته البلاد بعد إقرار ميثاق العمل الوطني خلال منتصف فبراير/ شباط 2001 هو نتيجة صريحة لحركة الاحتجاج السياسي في التسعينات. لأن حوادث الحركة أخذت منحى تصاعديا منذ حادثة الماراثون في العام 1994 وحتى العام ،1996 ولكن بعد الإعلان عن اكتشاف تنظيم "حزب الله - البحرين" تراجعت الحركة تدريجيا حتى العام 1998 عندما ساد شكل من أشكال الإحباط والإجهاد "بحسب تعبير بعض قيادات الحركة" لدى النخب والقواعد. وظهرت فترة انقطاع في حوادث العنف ابتداء من نهاية العام 1997 إلى قبيل تولي جلالة الملك مقاليد الحكم في مارس/ آذار .1999
ولذلك فإن من أبرز نتائج الحركة أنها لم تحقق مطالبها في تفعيل دستور 1973 أو إعادة الحياة البرلمانية للبلاد بعد حل المجلس الوطني السابق في العام .1975 ولكن لا يمكن إغفال دورها بالإضافة إلى مجموعة من العوامل الأخرى في إحداث انفراج سياسي داخل النظام السياسي البحريني بعد تولي جلالة الملك مقاليد الحكم وطرح مشروعه الإصلاحي.
على صعيد آخر فإن هناك جوانب أخرى لحركة الاحتجاج السياسي في التسعينات لم يتم طرحها حتى الآن، خصوصا فيما يتعلق بانعكاسات الحركة على الواقع السياسي الراهن في البحرين.
وفي البداية لابد من النظر في الآثار التي خلفتها حركة الاحتجاج على المواطن البحريني عموما، والتي يمكن رصدها أولا في تأثر الثقافة السياسية البحرينية بمجريات الحركة. ففي الفترة التي سبقت الحركة سادت ثقافة سياسية لا تشجع على المشاركة بسبب الظروف التي شهدتها البلاد من حل المجلس الوطني وسيادة قانون أمن الدولة، وهو ما خلق جيلا بحرينيا ليس له اهتمامات كبيرة بالسياسة والشأن العام ولوعيه السياسي أوجه قصور كثيرة. ولكن مجريات الحركة دفعت فئات عدة من الشباب البحريني إلى التثقيف الذاتي عبر القراءة وحضور الفعاليات العامة والمتابعة، وإن اختلف هذا التأثير بين طائفة وأخرى.
ولذلك فإن هناك إشكالية راهنة يواجهها النظام السياسي البحريني تتمثل في وجود اختلال في التوازن الإثنو - طائفي داخل المجتمع، وتزايد اهتمام الشيعة بالقضايا العامة بشكل أكبر بكثير من اهتمام السنة. فضلا عن وجود قدرات تنظيمية أكبر بالطريقة نفسها في المقارنة.
أما عن تأثير حركة الاحتجاج السياسي في التسعينات على القوى السياسية الموجودة في البلاد فقد خلقت الحركة شكلا من أشكال الارتباط بين هذه القوى وقواعدها في البلاد بسبب الحاجة المتبادلة بين الطرفين. ويمكن النظر إلى ثلاث حالات من التأثير العام - على سبيل المثال - كدليل واضح على حجم التأثير الذي خلقته هذه الحركة ومازال قائما حتى الآن:
- الحالة الأولى: القوى الشيعية: ساهمت الحركة في زيادة التضامن الاجتماعي بين القوى السياسية الشيعية وقواعدها، خصوصا القوى الإسلامية الشيعية التي قامت بدور كبير في إعالة أسر المعتقلين والمبعدين عن البلاد. وقد ظلت هناك علاقة ولاء اجتماعي وسياسي تتفاوت بين فرد وآخر حتى بعد حدوث الانفراج السياسي. وفي ضوء ذلك يمكن النظر إلى هذه العلاقة على أنها أحد أسباب ارتباط قواعد عريضة من الشيعة بجمعية الوفاق الوطني الإسلامية اليوم.
- الحالة الثانية: القوى السنية: ساهمت الحركة في تنبيه القوى الإسلامية السنية ودفعها نحو الاهتمام بالسياسة بعد أن كانت اهتماماتها سابقا تنحصر على المجالات التربوية والاجتماعية والخيرية. ومن أبرز الأمثلة في هذا السياق قيام جمعية الإصلاح خلال النصف الثاني من التسعينات بتوعية أعضائها بالتطورات الجارية في البلاد عبر سلسلة من اللقاءات السرية حاضر فيها عدد من أعضاء اللجنة الاستشارية وهدفت إلى توعية القواعد سياسيا. وقد انعكست هذه الجهود التي بدأت منذ تلك الفترة إلى زيادة اهتمام تيار الإخوان في البحرين بالشأن العام وأسهمت في دخوله المجال السياسي إلى أن حصل على كتلة برلمانية في مجلس النواب بعد أن غاب وجوده تماما في برلمان .1973
- الحالة الثالثة: القوى اليسارية: ساهمت حركة التسعينات في إعادة العلاقات والتقارب بين التيار اليساري والتيار الإسلامي الشيعي في البلاد بعد أن عانى من قطيعة طويلة استمرت زهاء عقد من الزمان بعد حادث اغتيال الشيخ عبدالله المدني وقيام الثورة الإسلامية في إيران. فقد ساهمت الحركة بمطالبها النخبوية في البداية في خلق أرضية مطالب مشتركة بين التيارين. وهو ما استمر لاحقا على رغم العثرات والخلافات الكثيرة إلى أن وصل إلى شكل من أشكال التحالف كما هو قائم بعد مرحلة الانفتاح السياسي في التحالف الرباعي الذي يضم التنظيمات الإسلامية الشيعية الرئيسية وأبرز التنظيمات اليسارية.
فقد أدى الاتفاق الشيعي - اليساري المشترك خلال حركة التسعينات على المطالب الدستورية وإعادة الحياة النيابية إلى إنشاء اتفاق آخر مشترك بشأن المطالبة بتعديل دستور مملكة البحرين الصادر في العام .2002
ومن التأثيرات المهمة التي خلقتها حركة الاحتجاج في التسعينات على النظام السياسي البحريني إنشاء تحالفات جديدة داخل النظام تمثلت في نخب إصلاحية تدعو إلى الإصلاح وتطالب به، ونخب أخرى محافظة ترى إمكان إجراء إصلاحات ولكن بشكل محدود.
أيضا من التأثيرات الأخرى التي لا يمكن إغفالها لحركة التسعينات تأثيراتها المختلفة على العلاقات الإقليمية للبحرين. فقد خلقت الحركة تحالفات جديدة للبلاد، وطورت علاقاتها مع الكثير من القوى الإقليمية والدولية. ومن أبرز هذه التأثيرات تزايد ارتباط الأمن الوطني البحريني بالأمن الوطني السعودي بسبب المساعدات المادية والعينية التي قدمتها الرياض للبحرين خلال تلك الحوادث، وكذلك الحال بالنسبة إلى الأردن وبعض دول مجلس التعاون. وتأثر العلاقات البحرينية - الإيرانية بالحوادث إلى درجة وصلت فيها إلى الطرد المتبادل للدبلوماسيين، وخفض مستوى العلاقة الدبلوماسية قبل أن تتم إعادتها في مرحلة لاحقة. كما ساهمت الحركة أيضا في توثيق علاقات البحرين بالولايات المتحدة من الناحية الأمنية والعسكرية نتيجة تزايد قلق النظام من تدهور الأوضاع الأمنية داخليا وإقليميا.
في النهاية فإن هناك قضايا عدة مرتبطة بحركة الاحتجاج السياسي، بالإضافة إلى وجود إشكالات كثيرة خلقتها الحركة على المستوى الداخلي والخارجي، وهي بحاجة ماسة إلى الدراسة والتوثيق، حتى لا تكون حركة التسعينات حلقة مفقودة من حلقات التاريخ البحريني كما حدث بالنسبة إلى حركات الاحتجاج السياسي الأخرى التي شهدتها البحرين.
* كاتب بحريني
العدد 1086 - الجمعة 26 أغسطس 2005م الموافق 21 رجب 1426هـ