تتركز الضغوط الأميركية السياسية على العراق الآن لإخراج الأزمة من عنق الزجاجة. فالأزمة التي دخل فيها الاحتلال باتت تضغط على الشعب المحتل لتقديم تسهيلات وإنقاذ ما يمكن إنقاذه حتى تستطيع واشنطن تبرير معنى وجودها العسكري وفوائده على مستويات لها صلة بالدستور وهيئة الدولة.
إدارة "البيت الأبيض" انتقلت الآن وبعد مرور أكثر من سنتين على الاحتلال وتقويض الدولة ودفع المجتمع نحو مزيد من التفكك الأهلي من طور الوعود بتحويل العراق إلى نموذج يحتذى في "الشرق الأوسط" إلى طور إدارة الأزمة من خلال إجراء ترتيبات إدارية متسرعة يمكن تسويقها دوليا وأمام الناخب الأميركي. فالإدارة تنصح الشعب بأن يقبل ما هو معروض من مواد في صيغة الدستور المقترح تحت شعار أن تلك الصيغ كفيلة بإنهاء المشكلات الداخلية وتأمين فترة زمنية للانتقال من الفوضى الأمنية إلى الاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي.
في المقابل هناك في الجانب العراقي من هو متحمس لترويج البضاعة الأميركية وإظهار محاسنها على رغم أن الشواهد الميدانية اليومية تشير إلى العكس. وبعض هؤلاء يظهر علنا وكأنه أكثر حماسا لتسويق البضاعة "الفيدرالية" بوصفها الحل المناسب لبلد يعاني من التفكك والاضطراب واحتمال الاضمحلال السياسي وخروجه من الخريطة.
هذا البعض من العراقيين يخادع وخصوصا حين يؤكد على أن الفيدرالية تضمن وحدة الدولة وتحافظ على سيادتها وتنقل العراق من حال الانقسام والفوضى والتسلط إلى حال التوحد والاستقرار والتوزيع العادل للثروات والصلاحيات.
إلى هذه الخدعة يلجأ هذا البعض إلى إعطاء أمثلة حسية "نماذج" للتأكيد على صحة ما يذهب إليه. هذه الأمثلة "النماذج" تعتمد المقارنة النسبية بين مدى نجاح الفيدرالية في الولايات المتحدة، ونجاح الوحدات الجمهورية في الاتحاد الألماني، وكذلك نجاح الاتحاد السويسري الذي يعتمد نظام الكانتونات "الإدارات المستقلة" خلال فترة ممتدة منذ أكثر من 700 سنة.
هذا التسويق الذي يقوم على فكرة المقارنة بين نجاح التجارب الفيدرالية "الولايات، الجمهوريات، والكانتونات" في أميركا وألمانيا وسويسرا واحتمال نجاح التجربة عينها في العراق يحتاج إلى قراءة مغايرة لإظهار عناصر الخداع في تلك المقاربة بين حالات مختلفة. فالمقاربة حتى تكون صحيحة لابد من أن تكون الحالات متشابهة أو على الأقل متقاربة في تكوينها التاريخي وتركيبها الاجتماعي وتوزعها المناطقي "الجغرافي". وهذا التشابه بين العراق من جهة والولايات المتحدة وألمانيا وسويسرا من جهة أخرى غير متوافر حتى تكون المقارنة صحيحة وبالتالي حتى تكون النتائج المرجوة متقاربة.
التاريخ الأميركي يختلف عن تاريخ العراق وبالتالي نشوء الدولة في الولايات المتحدة اختلفت عناصره في التركيب الاجتماعي والترتيب الإداري. فالولايات الأميركية قامت على أساس التقسيم السياسي للإدارات ولم تعتمد التكوين المذهبي أو الطائفي للولاية. وفي ألمانيا قامت الدولة القومية على أساس التوحيد القسري الذي قاده بسمارك في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. والجمهوريات الألمانية تخضع في النهاية إلى سلطة مركزية تمنع الانقسام الأهلي وتشرذم الدولة الواحدة والمشتركة. كذلك الاتحاد السويسري فهو يضم وحدات إدارية "كانتونات" مركبة من قوميات صغيرة متحدة في إطار سلطة مركزية مرنة تمنع التفكك.
هذه الأمور ليست موجودة في العراق لأن المعروض ليس فيدراليات سياسية بقدر ما هو فيدراليات مناطقية "طائفية، مذهبية" تؤسس لاحقا لحالات من الانقسام القانوني وتفكيك الدولة إلى دويلات أهلية.
إلى هذا الاختلاف تغيب سياسة التسويق الأيديولوجي مسألة البيئة الإقليمية لدولة العراق. فالبيئة الإقليمية لبلاد الرافدين تختلف في تاريخها وتكوينها وتركيبها وامتداداتها الثقافية والدينية عن تلك البيئة التي تولدت في إطارها التاريخي - الجغرافي مجموعة نماذج خاصة في أميركا وأوروبا.
فكرة الفيدرالية في العراق تحتضن الكثير من السلبيات وهي تثير جملة مخاوف وتهدد لاحقا بمنع عودة الدولة وانجراف المجتمع نحو هاوية الاقتتال الأهلي. فالفكرة غير مدروسة محليا وتحتاج إلى إعادة قراءة خارج تلك المقارنات والمقاربات مع نماذج تختلف في بيئتها الإقليمية والجغرافية والتاريخية والاجتماعية عن ظروف العراق وتكوينه وتمركز طوائفه ومذاهبه وأقوامه في مناطق متعددة لا تسمح لنموذج الفيدرالية من النجاح والتقدم في المستقبل. فالعراق الآن بحاجة إلى دولة مرنة تشد أطراف المجتمع الأهلي إلى وحدة مركزية قوية.
الضغوط الأميركية على العراق كثيرة إلا أن نصائح الرئيس جورج بوش ليست بالضرورة هي العلاج الصحيح لدولة تختلف في تركيبها وتقاليدها وعلاقاتها وبيئتها الإقليمية عن تلك النماذج التي يروج لحسناتها بعض المستفيدين من الاحتلال
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1084 - الأربعاء 24 أغسطس 2005م الموافق 19 رجب 1426هـ