يكثر الحديث في الفترة الراهنة عن الحياد الاعلامي والصحافة المحايدة، وهو حديث لا يدور إلا إذا كان المتحدث يجد فائدة معينة من ورائه، في حين يكون الحديث عن الانحياز الاعلامي مطلوبا ومرغوبا في مواقف أخرى، تستدعيها المصلحة والفائدة أيضا! ونظن أنه في مناخ العولمة وانطلاق ثورة المعلومات والاعلام وتكنولوجيا الاتصال بهذا الزخم وقوة التأثير وحرية العمل والقول والبث، سقطت مفاهيم كثيرة عن مهمة الاعلام ودور الصحافة، فضلا عن مفاهيم الحياد والانحياز. .. فها هي الفضائيات وشبكات المعلومات الدولية "الإنترنت" وملايين المواقع المتاحة عليها واجهزة الاتصال الحديثة، تضخ معلومات وأخبارا وآراء وتحليلات فوق قدرة الإنسان الحالي على المتابعة والاستيعاب، أما القادم فهو أكثر وأضخم وأخطر.
اليوم يكثر الحديث عن الحياد الاعلامي في مناسبات كثيرة، وحول قضايا خطيرة تنتاب حياتنا اليومية، من دون أن يتعمق أحد في شرح وتحديد مفهوم هذا الحياد وحدوده وقيوده، ولماذا هو حياد الآن، وانحياز غدا.
وقد أثارت مناسبة الانتخابات الرئاسية المصرية التي تدور رحاها الآن، بمفاهيم واساليب جديدة على الحياة المصرية، قضية الحياد الاعلامي بين فرص المرشحين العشرة للرئاسة، ذلك أن في مقدمتهم رئيس الدولة الحالي وصاحب السلطة والقرار والتأثير، الأمر الذي وجد فيه المنافسون انحيازا مسبقا يتطلب أول ما يتطلب حياد الحكومة والدولة، وفي المقدمة حياد الاعلام الواقع عمليا تحت سلطة الحكومة والدولة!
ونستنتج من هذا أن المطالبين بحياد الاعلام بداءة لديهم شكوك ومخاوف مشروعة، نتيجة للعلاقة المعقدة بين الاعلام والصحافة والسلطة التنفيذية، مخاوف من انحياز الاعلام بوضعه الحالي إلى المرشح رئيس السلطة التنفيذية ورئيس الدولة القائم، وشكوك في حيادية الاعلام بالتالي أولا، وفي حريته ثانيا، والحقيقة أن هذا صحيح نظرا إلى هيمنة الدولة وسيطرة الحكومة على معظم الصحف ووسائل الاعلام.
ونبدأ بطرح النقاط الرئيسية الآتية:
أولا: لا يمكننا الحديث عن الحياد والموضوعية والتوازن في العمل الصحافي والاعلامي، في غياب الحرية الحقيقية، وليس الحرية الشكلية، ذلك ان حرية الصحافة وتدفق المعلومات وحرية اصدار الصحف وملكياتها وإدارتها، هي جوهر القضية، ومن دون فك الاشتباك القائم بين الصحافة والاعلام وبين الدولة الحكومة، في مصر بل في معظم الدول العربية، لن يتحقق حياد ولا موضوعية ولا حرية ولا صدقية.
ثانيا: نظرا إلى تشابك الاوضاع وسرعة انسياب المعلومات عبر مصادر محلية أحيانا، ودولية غالبا، وتداخلت الحدود وتقاطعت، بين الحياد والانحياز في العمل الصحافي والاعلامي.
والأسهل أن نعود إلى القاعدة الاصلية القديمة، وهي أن الحياد ضروري في نشر الاخبار والمعلومات المدققة، لكن المقالات والتحليلات التي تحمل اسماء كاتبيها لها مقياس آخر، يميل غالبا نحو الانحياز بحكم افكار وانتماءات كل كاتب واجتهادات كل مفكر، وهذا هو مصدر التنوع والتعدد الذي يفتح نوافذ الاجتهاد ويثري الحوار ويحقق الحرية.
ثالثا: إذا جاز تطبيق ذلك على الصحافة المستقلة حقا، المتوجهة إلى القراء عموما والباحثة عن الصدقية، فإنه يصعب تطبيقه على الصحافة الحزبية مثلا، فهي بحكم انتمائها منحازة للحزب الذي تتبعه، وذلك يصدق على صحف مثل "الوفد" المعبرة عن حزب الوفد، و"الأهالي" المعبرة عن حزب التجمع، و"العربي" المعبرة عن الحزب الناصري و"مايو" المعبرة عن الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم وغيرها من الصحف والاحزاب المتكاثرة.
والطبيعي أو المنتظر إذا، أن تخرج من هذا التصنيف الصحف القومية، مثل "الأهرام" و"الأخبار" و"الجمهورية" و"المصور" و"روز اليوسف"... الخ، فهذه بحكم التعريف ليست ولا يجب أن تكون صحفا حزبية ولا حكومية أساسا، بل هي صحف قومية - وفق اسمها على الأقل - يجب أن تعبر عن كل التيارات والاحزاب والقوى والاتجاهات في المجتمع بدقة وأمانة وتوازن وربما حيادية أيضا.
رابعا: أمامنا نماذج كثيرة في العالم من حولنا، فإن بدأنا بالصحف اللبنانية ووسائل الاعلام الأخرى، لوجدناها في غالبيتها الغالبة، صحفا خاصة، لكنها في الوقت نفسه منحازه إلى تيارات سياسية وحزبية واضحة، وقد تجلى ذلك مثلا في الانتخابات البرلمانية الأخيرة... من دون حرج!
أما النموذج الاميركي، إذ إن أميركا هي قبلة العرب والعجم، فالوضع يختلف باختلاف مساحة الحرية والديمقراطية التي يتمتع بها المجتمع الأميركي وصحافته واعلامه، ولقد تابعنا كيف أن الصحيفتين الأهم أميركيا وعالميا، "نيويورك تايمز"، و"واشنطن بوست"، المستقلتين المحايدتين كما هو مفترض، لم تحافظا بدقة على ميكانيكية الحياد خلال انتخابات الرئاسة الأخيرة، وخرجت كل منهما قبل يوم التصويت بساعات، بافتتاحية نارية تهاجم فيها سياسة الرئيس المرشح بوش... دون خوف أو وجل، ومن دون كسر لمبدأ الحياد!
خامسا: أما أوضاع الصحافة والاعلام في مصر، المطلوب حيادهما في معركة انتخابات الرئاسة المقرر إجراؤها في السابع من سبتمبر/ أيلول المقبل، فهي أوضاع ملتبسة ومتشابكة، تعكس تناقضا في الفكر والتطبيق معا، وانظر يا عزيزي في الإشكالية الآتية، التي تضم عدة أنواع من الصحافة والاعلام:
1- هناك أولا صحافة قومية "عشر مؤسسات كبرى" تسيطر عمليا على نحو 80 في المئة من سوق الصحافة والطباعة والاعلان والتوزيع، لا تستطيع أن تصفها بأنها صحافة حكومية خاصة، ولا مستقلة ولا خاصة ولا حزبية، وانما هي دائما بين بين، ووفقا للدستور وقوانين الصحافة، فهي "صحف تمتلكها الدولة ويمارس حق الملكية عليها، مجلس الشورى"...
وكما ترى فهي صياغة حمالة أوجه وقابلة لكل تأويل، الأمر الذي حول الصحافة القومية في ظلها إلى ممتلكات حكومية يديرها ولاة، أو ممتلكات خاصة تخضع لهيمنة الحكومة، وفي الحالتين تردت أوضاعها وفسدت وتخلفت المهنة والمهنيين، ولا بد إذا من فض هذا الاشتباك والالتباس الغامض!
2- صحافة أو اعلام حكومي صريح وسافر، مثل الاذاعة والتلفزيون، وهما الأكثر تأثيرا ونفوذا، خصوصا في شعب نصفه لايزال أميا لا يقرأ الصحف مثلا، والوضع في ظل الاصلاحات والتحولات الجديدة والآمال الديمقراطية يتطلب أيضا تحرير هذا الاعلام من بيروقراطية الملكية الحكومية وادارتها العاجزة.
3- الصحافة الحزبية، وهي متعددة بتعدد الاحزاب "نحو عشرين حزبا" كما أنها مصابة بنفس عاهات الاحزاب وقصورها، وباستثناء صحيفتين أو ثلاث، لا تكاد تجد لها تأثيرا حقيقيا في الرأي العام إلا الصخب!
4- الصحف المستقلة والخاصة، التي باتت تمثل ظاهرة جديدة في المجتمع المصري، أراها ايجابية، بصرف النظر عن شطط البدايات وحماس الولادة، وأبرزها: "الأسبوع" و"صوت الأمة" و"الفجر" و"المصري اليوم" و"الدستور"، وغيرها كثير، يوحي بانطلاقة جديدة للصحافة المستقلة والاعلام التلفزيوني الخاص، ممثلا ببعض القنوات الجديدة مثل "دريم" و"المحور" وغيرهما.
ووسط هذا الخليط بكل تعدديته وتنوعه الصحافي والاعلامي، ما بين قومي وحكومي وحزبي وخاص، يصبح موضوع الحياد الاعلامي الدقيق مسألة غاية في الصعوبة إن لم يكن مستحيلا، فالصحف الحزبية منحازة طبعا لأحزابها، والصحف الخاصة منحازة غالبا بحكم اختياراتها ومصالحها ومصادر تمويلها، والصحف الحكومية منحازة كذلك لحكومتها، وتبقى الصحف القومية في مأزق هائل لأن هويتها غير محددة بدقة، بل هي الآن كما الأمس تبدو منحازة في مسألة الانتخابات الرئاسية، على رغم أن قانون الصحافة رقم 96 لسنة ،1996 ينص في مادته الخامسة والخمسين، على أن "الصحف القومية مستقلة عن السلطة التنفيذية وعن جميع الاحزاب" وبانحيازها تخالف القانون نصا وروحا.
لكن الواقع المعاش يقول غير ما يقوله القانون، وبالتالي كان من حق المتنافسين على منصب الرئيس، أن يرفعوا منذ البداية شعار ضرورة الحياد الاعلامي، وكان من واجب اللجنة العليا المشرفة على الانتخابات، أن تتحدث هي ايضا عن ضرورة الحياد الاعلامي والفرص المتكافئة للمرشحين العشرة، من المرشح أحمد الصباحي حتى المرشح حسني مبارك.
فهل ما نقرأه في الصحف القومية، وما نشاهده على شاشات التلفزيون المصري بقنواته المتعددة، هذه الأيام المشتعلة بالحملات الانتخابية، يوفر الفرص المتكافئة للمرشحين العشرة، ويحقق التوازن الدقيق بين الحزب الوطني الحاكم وبين الاحزاب المنافسة والمعارضة!
أشك كثيرا، ومبعث شكي بل مصدر يقيني هو صفحات الصحف وشاشات التلفاز، التي تتحدث عن الحياد بين المرشحين والتوازن بين الاحزاب، لكنها تمارس الانحياز، وهو انحياز قد يكون مفهوما في ظل دولة شمولية وحكم سلطوي، لكن في ظل دولة ونظام يبشران بإصلاح ديمقراطي، يصبح أمرا غير مفهوم أو مقبول، حتما سيكون في مقدمة اعتراضات المرشحين المهزومين، كما في تقارير اللجان الكثير لمراقبة الانتخابات، ليصبح خنجرا في ظهر صانعيه والمتحمسين له بلا روية أو فهم!
خير الكلام: قال حكيم:
الإنسان موقف، والموقف اختيار، والاختيار إرادة!
* مدير تحرير صحيفة "الأهرام" المصرية
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1083 - الثلثاء 23 أغسطس 2005م الموافق 18 رجب 1426هـ