لبنان الذي لا تتجاوز مساحته الجغرافية مساحة مدينة طهران بضواحيها، ولا يتجاوز عدد سكانه عدد سكان حي شبرا الأكبر في القاهرة، يملأ الدنيا ويشغل الناس بمشكلاته. ومن يستمع يوميا إلى ما تبثه محطاته التلفزيونية ويكتبه معلقوه يشعر أن الدنيا هي لبنان وأن لبنان هو الدنيا. هذا اللبنان ينتظر بفارغ الصبر تقرير دتليف ميليس، المحقق الألماني الذي أناطت به الأمم المتحدة تقصي حقيقة من قتل رفيق الحريري، والذي أصبح لقبه الرسمي رئيس لجنة التحقيق الدولية في جريمة اغتيال الحريري.
وعندما تسأل كمراقب أهل الذكر اللبناني، ترى من قتل الحريري؟ تأتيك ألف إجابة وإجابة، بعضها ينتمي إلى التكهن، وبعضها ينتمي إلى نظام المؤامرة المشهور في الثقافة العربية. ويحبس لبنان السياسي أنفاسه في الأسابيع القليلة المقبلة لأن ميليس سيقدم تقريره النهائي، بعضهم يقول إنه سيطلب مهلة وفي اليوم التالي يقول لك هذا البعض إنه سيلتزم بالمهل الزمنية المضروبة، أي خلال أسبوعين من الآن.
مضى على جريمة اغتيال الحريري حتى الساعة أكثر من نصف عام، ولا اعتقد أن دولة مرت بما يمر به لبنان، من تسليم كل أوراق التحقيق إلى لجنة دولية ليس ممثلا فيها، فلبنان الرسمي والشعبي ينتظر ما يصرح به رئيس اللجنة الدولية، أو ما يتكهن به بعض العارفين المستطلعين للإشارات، ولكن لا توجد حتى الساعة حقائق ثابتة على الأرض.
لبنان له مظهر العالم المتقدم ومخبر العالم الثالث، فهو من جهة يجري انتخابات دورية ويحصل على مجلس نواب منتخب، وله تجمعات سياسية، وصحف حرة ناطقة كل يوم بجديد، ولكن مخبره عالم ثالث، يتوزع بين طوائف لها نكهة القبائل، وأحزاب لها ممارسة الطوائف، وقانون أحزاب صادر العام 1908 أي في العهد العثماني، وقد حكم لبنان مجموعة واحدة من الناس، فبين العام ،1942 عام الاستقلال اللبناني، حتى عشية الحرب الأهلية وسط سبعينات القرن الماضي، حكم لبنان فقط 224 عائلة، تعاقبوا على السلطة ابنا عن أب، ولم تتغير كثيرا هذه التركيبة السياسية بعد انتهاء الحرب، وعودة السلم الأهلي إلا فيما ندر، وتحول "لوردات الحرب" إلى النادي السياسي لا غير. وتشهد ساحة الشهداء "الحرية" لاحقا وسط بيروت على تلك الاستهانة بالوطن، إذ يرتفع نصبا للشهداء المتكاتفين، ولكن النصب نفسه عندما تقترب منه سترى أنه مثقوب بقسوة بطلقات رصاص لا ترحم حتى الحديد، دليلا على أن الوطن اللبناني الواحد هو موقع تكاذب بين الفئات اللبنانية الطائفية المختلفة لا إيمان حقيقي بوطن واحد.
البعض من اللبنانيين يحيلك إلى مفهوم آخر بشأن شعار العيش المشترك بقوله إنه تكاذب مشترك، فحتى اللحظة لم يستطع اللبنانيون، على رغم ما مر على وطنهم من مآس، ومواطنيهم من ضنك، أن يصلوا إلى نقاط تلاق حقيقية لإنهاض الوطن. اعتقد البعض أن "ثورة الرابع عشر من مارس" التي حشدت معظم اللبنانيين في ساحة الحرية حققت هذا العيش المشترك، ولكن ما ان فترت أصداء الصياح، حتى عاد الجميع كل إلى متاريسه يريد أن يحقق مصالح فئوية ضيقة، فتحالف الأضداد في الانتخابات اللاحقة، أنتج في نهاية الأمر برلمانا سرعان ما اختلف فيه حلفاء أمس القريب، وعاد الأضداد كل يحفر حفرة لضده، وتحول الأصدقاء إلى أعداء... هذا هو لبنان.
في لبنان فقط ترى تلازم سلطتين سماها اللبنانيون السلطة الزمنية وتقابلها السلطة الروحية، وإذا كان من المفهوم أن يكون هناك في المجتمع سلطة زمنية، فإن فهم "السلطة" الروحية عصي على الفهم عقلا، فلا سلطة على الروح، لكنها موجودة في لبنان، وتحمل مرجعية سياسية تستخدم في الوقت المناسب لتأكيد التجاذب السياسي، فكل قوة سياسية في الغالب لها مرجعيتها الدينية، ويقال لك إن لبنان ديمقراطي حديث أيضا.
في مثل هذا المجتمع السياسي، تنتشر بجانب قضايا أخرى، سوق تسمى سوق الإشاعة، وعندما تسأل محدثك من جديد ترى من قتل الشهيد رفيق الحريري وزج لبنان في أتون صراع أقله انتظار تقرير ميليس، وقد يأتي بعده بشرور أكبر لهذا البلد الصغير فتفجر لبنان من الداخل وتخلط الأوراق في المحيط الأكبر، يأتيك الجواب مؤكدا أنها أميركا لا غير، وقد اعتاد التحليل العربي السياسي على ذلك منذ زمن، وربما نسي اللبنانيون تعبيرهم المشهور "الحق على الطليان" بالقول إن الحق على "الأميركان" هذه المرة، ولن تنقص محدثك الأدلة والبراهين "العقلية" على أن أميركا لا غيرها هي التي كانت خلف اغتيال الشهيد رفيق الحريري، وإن أضفت سؤالا؛ وما هو تقديرك لنتائج التحقيق التي سيخرج بها ميليس في نهاية المطاف، يأتي الجواب سريعا ذلك يعتمد على ما تريده أميركا من التقرير.
لبنان الذي لا تزيد مساحته على مساحة مدينة طهران الكبرى يبحث عن توافق داخلي، بعضهم يريد الوصول إليه عن طريق قانون انتخاب جديد يحترم النسبية، يعطي لكل صاحب حق حقه! ولا يجرى الحديث علنا عن فيدرالية، ولكن الإشارة إلى الفيدرالية تستبدل بكلمات مثل العدالة في التمثيل واللامركزية الإدارية، وهي مرادفات تعني بشكل ما الفيدرالية. أبناء الريف اللبناني والجبل يتوقون إلى هكذا تقسيم، أما أبناء المدن كبيروت وصيدا وطرابلس فلهم رؤية أخرى، وليس غريبا أن يكون جل أبناء المدن من الطائفة السنية، وأبناء الريف والجبل من الطوائف الأخرى، وعندما تسأل ماذا يعني "إعطاء كل ذي حق حقه" لا تجد جوابا شافيا ومقنعا، إلا أنه لا يخفاك السبب الحقيقي الذي يختفي وراء اغتيال الرئيس الحريري، فلأول مرة يخرج قائد سياسي يعبر بقوة الطائفة ليخاطب الوطن، وهذا من الممنوعات المنكرة.
حقيقة الأمر أن لبنان هو المسرح الخلفي لكل ما يدور على "مسرح الشرق الأوسط" من طهران وكابول في الشرق إلى طنجة في الغرب، وهو مسرح تعد على خشبته وعلى حساب مواطنيه السيناريوهات المختلفة ثم تطبق سلبا أو إيجابا على بقية مسارح الشرق الأوسط. من هنا فإن مراقبة ما يحدث في لبنان وما يدور على مسرحه ليس مهما فقط لفهم الشأن اللبناني ولكنه أهم لفهم الشأن الدولي في المنطقة الممتدة في قوس الأزمات في الشرق الأوسط. وهو مسرح تجارب أيضا. هذا هو لبنان مصدر قوته هو مصدر ضعفه، وكلاهما مصدر الحيرة.
* كاتب كويتي
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 1082 - الإثنين 22 أغسطس 2005م الموافق 17 رجب 1426هـ