العدد 1082 - الإثنين 22 أغسطس 2005م الموافق 17 رجب 1426هـ

ملامح الأدب الشعبي... تكرار لسياقات الماضي ومجرياته

لقد تطرقت في مقال سابق إلى بعض ملامح الأدب الشعبي. .. وهنا أعاود الحديث عن ملامح أخرى لهذا الأدب، ومن هذه الملامح المهمة الملمح التاريخي. فالتاريخ ترجمته الأمم السابقة بسلبها وايجابها وعلى الحصيف الكيس الذي يقرأ عن وعي ودراية كل مجريات التاريخ ومنعطفاتها المصيرية وكل مفردة من مفرداته لابد أن يتاخم بجهده علما وعبرا جمه يسقطها على واقعه المعاش لأن الحاضر هو تكرار لسياقات الماضي ومجرياته إلا من حيث الشخوص إذ لا جديد تحت الشمس كما يقولون.

وعليه فتراثنا الشعبي الثقافي متخم بالتاريخ، مليء بالحوادث السابقة التي تفاعل معها الانسان في حياته وكابدها سواء كانت من لوازم السعادة أم كانت من لوازم الشقاء دونها عبر قوالب أدبية رائعة من قبيل الشعر، القصة، الحكم، والطرائف، وعلقت في القلوب ولاقت استحسان الناس بلحاظ أنها تلامس نبضهم وتترجم قضاياهم، ومن حسنات الأدب الذي دون الحوادث التاريخية انه حفظ كثيرا من الحوادث السابقة عن أن تندثر وتذهب أدراج الرياح، ومن حسناته ايضا انه اضحى منجما تاريخيا خصبا يحج نحوه المهتمون بالتراث الانساني في بحوثهم ودراساتهم الأكاديمية وندواتهم والكثير من فعالياتهم الثقافية والفكرية ويستشهدون بها كحجج وشواهد في اطروحاتهم وآرائهم، وهناك الكثير من القضايا التاريخية التي لولا تدوينها عبر الأنماط الأدبية المتعارفة لذهبت وانتهت من الوجود حدثت في قرانا قديما ومنها ما لم يتم تدوينها.

وهناك قضايا حدثت كان لها أن تخلد وأن تذكر جيلا بعد جيل مثل قضية "النمر" الذي هرب من المطار ولجأ إلى قرية سماهيج ما أثار الفزع والخوف وسط الأهالي الآمنين ما حدا بالحكومة ان ترميه بالرصاص وهو مختبئ في قارب في البحر، وتفجرت قرائح الشعراء معبرة عن هذه الواقعة ولولا ذاك لأضحت هذه الحادثة كمثيلاتها من الحوادث التي جرت في تاريخنا سواء في قرانا وما تحمله من أسرار تاريخية كثيرة أم كانت على مستوى الوطن، نحن بحاجة حقيقة وجادة لكتابة التاريخ المسموع وإعادة قراءاته وفق رؤى عصرية وتحديثية تتصف بالموضوعية والتحليل.

ومن الملامح ايضا... الملمح الجمالي فالجمال هو الانعكاس الجميل لجوهر الأشياء، هو التناسب بين المظهر والمخبر، نراه في الطبيعة وسحرها الأخاذ، وفي السواقي وهي تحوطها الاشجار، وفي القصيدة الدفاقة بالوجدان والمشاعر الصادقة، وفي الكون المترامي الأطراف وفي نجومه وهي مرصعة على صفحة السماء، ونلمس الجمال والكمال ولا نجد إلا أن نقف منبهرين مأخوذين بجماله وسحره وجاذبيته، وتراثنا الشعبي الانساني كان يحمل ضمن ما يحمل من أبعاد وملامح طرحه الجميل للصور والتشبيهات والمحسنات البديعية والبلاغية ما يضاهي ويرتقي للشعر الفصيح من حيث مبانيه وتراكيبه، فتراه وعلى رغم أن اللغة والأداة في الطرح سهلة ولا تستعصي على أحد في الفهم فإنها تحمل من التعابير والصور البلاغية ما يغنيها عن الاستعانة باللفظ الفصيح فهو يتمايز - أي الأدب الشعبي - بإسلوبه وطرحه وتراكيبه اللفظية واللغوية وله منهجيته الخاصة به، ولهذا انكبت جهود كثيرة من المؤلفين والأدباء والمؤرخين في تتبع اللهجة الشعبية في الأدب الشعبي وقراءتها بشكل متأن وتحليلها التحليل التاريخي، وألفت على هذا الطريق كتب شتى وابحاث ومحاضرات ومقالات كثيرة للوقوف على حقائق الأمور وتخريج الأسرار الكامنة وراء القوة البلاغية والتراكيبية للأدب الشعبي في صوره وتعابيره ولغته السهلة الممتنعة.

كذلك فإن الملمح الفكاهي... له دوره أيضا فالطرائف والنكت الهزلية تعبر عن الروح الدعابية الترويحية التي تمارسها الشعوب والأمم في أجواء الحياة الاعتيادية وفي كل موقع من مواقعها كمتنفس عما تعيشه تلك الشعوب من ضائقة في العيش أو المال أو ما تكابده من ازمات وحروب ومآس فتلجأ إلى اسلوب الدعابة والهزل على أمل أن تزيح الهموم والآلام التي تعتصرها عبر تحويرها إلى طرفة أو نكتة أو فكاهتة أو على أقل التقادير أن تستوعبها وتخفف عن وقعها ولا تخنع مستسلمة للواقع، وهو أسلوب ابتكاري جميل مارسته الشعوب في ذروة محنها ومآسيها ودرجت عليه كيما تستحكم يدا الأزمات وتكون عائقا أمام عجلة التطور والتحديث، فتأقلموا ومارسوا حياتهم الاعتيادية أمام دوي القنابل وأصوات الصواريخ، في تراثنا الشعبي نلمس الروح الفكاهية تشحن جنبات الأدب الشعبي وتعلم أساسياته، وكذلك في موروثنا العربي القديم فيه الكثير من الأنماط الفكاهية التي ترسم ملامح واقع المجتمع العربي والاسلامي وما يعتمل في أرجائه وهناك شخوص تاريخية عرفت بالدعابة والفكاهة الهادفة سواء في تراثنا العربي أم في تراثنا الانساني على وجه العموم، مثل "جحا" وكثير من الشخوص كالشعراء والكتاب والساسة الذين صنعوا من الفكاهة والهزل رسالة فيها الكثير من الدلالات والاشارات والانتقادات والرموز الموجهة نحو قضية اجتماعية كانت أم سياسة أم اقتصادية ولم يقتصر ذلك على هذا الحد وحسب، بل تعداه إلى أبعد من ذلك فهناك من الكتاب والمثقفين من مارس اسلوب النقد إلى أعمدة الدولة العباسية آنذلك عبر نمط الكفاهة وترى ذلك جليا في كتاب "كليلة ودمنة" لابن المقفع وهي رسالة ذات ابعاد ودلالات عميقة





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً