حتى الآن لاتزال الإدارة الأميركية تمارس سياسة الخداع بشأن استراتيجيتها في العراق والمنطقة. فالكلام الذي يصدر تباعا عن المسئولين ومراكز القوى في واشنطن ليس واضحا. وربما هناك ما يشبه الاتفاق على تعمد التضليل لتغطية الخطوات التي ينوي "البيت الأبيض" اعتمادها في الفترة المقبلة.
الغموض في المواقف العامة والاستراتيجية يدل على وجود نوع من الارتباك في السياسة الخارجية وصلتها بالأمن القومي والعلاقات الداخلية. هذا جانب من الصورة. الجانب الآخر منها يفترض ضمنا وجود خطة تضليل القصد منها التظاهر بالضعف لخداع الخصوم وربما استدراجهم إلى مواقع يسهل اصطيادهم فيها.
وبين سياسة الارتباك وخطة التضليل يمكن قراءة عشرات التصريحات الأميركية المتناقضة مضافا إليها عشرات المقالات والتحليلات المتعارضة في الجوهر وكلها تشير إلى وجود أزمة ولكنها لا تتفق على حلول مشتركة للخروج منها.
التعليقات والآراء كثيرة في واشنطن وخصوصا تلك المتعلقة بقضايا "الشرق الأوسط الكبير". فالكل مجمع على وجود مشكلات وعدم استقرار في قوس الازمات الممتد من أفغانستان إلى فلسطين والسودان ولبنان. والكل أيضا غير مقتنع بالسياسة الهجومية التي اتبعتها الإدارة الحالية ردا على ما سمته المخاطر الخارجية التي تهدد الأمن القومي الأميركي. إلا أن هذا الشعور بالازمة "والفشل" لم يتطور بعد إلى سياسة نقدية واضحة تعيد النظر بالأسس التي نهضت عليها الاستراتيجية في عهد الثنائي الشرير تشيني - رامسفيلد.
وبسبب عدم تبلور قراءة نقدية للسياسة الخارجية ظهر هذا النوع من الغموض في التعامل مع ملفات ساخنة كأفغانستان والعراق وفلسطين أو ملفات في طريقها إلى التسخين كإيران والسودان ولبنان.
الغموض يعني وجود حالات من الارتباك ويعني أيضا وجود خطة تطبخ على حذر ويراد معالجتها بعيدا عن الانظار وتكون نهايتها خارج التوقعات. والارتباك في هذا المعنى تصبح له مجموعة أهداف لا يمكن معرفتها بسبب سياسة الخداع والتظاهر بالضعف والخوف والتردد.
في الملف العراقي مثلا تصدر أسبوعيا سلة من التصريحات المتعارضة بشأن الوجود العسكري الأميركي والمدى الزمني الذي يمكن أن تستمر فيه قوات الاحتلال. فهناك مطالبة بسحب القوات فورا، وهناك مطالبة بوضع جدول زمني للانسحاب، وهناك من يرفض نقاش المسألة معتبرا اياها من الاسرار العسكرية التي تمس الأمن القومي الأميركي، وهناك من يعلق وجود الاحتلال بمدى نجاح قوات الشرطة العراقية في امتلاك القدرات وأخذ زمام المبادرة من دون حاجة إلى مساعدة خارجية. فكل الاحتمالات واردة وهي مفتوحة على اجتهادات تتراوح بين الانسحاب واستمرار الاحتلال في مواقعه إلى امد غير منظور.
كذلك يلاحظ التناقض نفسه بشأن الملف النووي الإيراني. فكل الاحتمالات وارادة وتتراوح بين استخدام القوة العسكرية كحل أخير وبين رفض استخدام القوة لحل الازمة مع طهران. والأمر نفسه يتكرر في الملف الفلسطيني وما يتفرع عنه من خطط انسحاب تطبيقا لما يسمى بـ "خريطة الطريق" أو ما لا يتفرع عنه وهو يتعلق باحتمال وقف الانسحابات وإعادة توطين المستجلين من غزة في مناطق فلسطينية أخرى.
وعلى القياس نفسه يمكن أن نقرأ الكثير من العناوين الفرعية في سياسة الخداع الأميركية بدءا من أفغانستان وانتهاء في السودان ولبنان. والسؤال بشأن هذه السياسة الملتوية: هل المقصود منها التضليل وارباك الخصوم أم ان القصد من وراء الغموض تغطية الفشل تمهيدا للخروج من العراق والمنطقة؟ الاحتمال الثاني مستبعد الآن والخوف هو أن يكون الاحتمال الأول هو المرجح
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1081 - الأحد 21 أغسطس 2005م الموافق 16 رجب 1426هـ