لم تكن حركة انسحاب سفراء دول الاتحاد الأوروبي من مؤتمر دربان 2 عفوية أو ردة فعل انفعالية، وإنما كانت مقصودة للتنصل من تبعات طرح هذا الموضوع من الأساس.
القارة الأوروبية العجوز، ومعها الولايات المتحدة الأميركية، تعاني من عقدة العنصرية في أعماق اللاشعور، لذلك فإن مجرد مناقشة هذا الموضوع يثير لديها حالة شديدة من الأرتيكاريا السياسية والقرف الحضاري!
الولايات المتحدة التي تتباهى اليوم بانتخاب رئيس أسود، كانت حتى الستينيات تعمل بنظام الفصل العنصري، وتفرض على الزنوج العيش في غيتوات، والجلوس في مؤخرة الحافلات، وتمنعهم من دخول السوبرماركت والسينمات. أما أوروبا «العجوز» فتورّطت لخمسة قرون في استعباد بقية القارات، واستغلالها واستنزاف مواردها وإلحاقها باقتصاديات المركز. حتى الدول الأوروبية الصغيرة كبلجيكا وهولندا والبرتغال، كانت جيوشها تحتل دولا بأضعاف مساحتها في آسيا وإفريقيا. فطرح قضية العنصرية ينكأ جرحا غائرا في الذات الغربية.
انسحاب الغربيين من مؤتمرٍ تعقده الأمم المتحدة يدينهم ويعرّيهم، والأسوأ من ذلك مواقف صحفهم وإعلامهم «الحر». فعندما يتعلق الأمر بالحديث عن «إسرائيل»، وتذكّر الأوروبيين بدورهم المشين في إنشاء هذا الكيان العنصري في قلب العالم الإسلامي، تقوم القيامة ولا تقعد. وصحيفة «ليبراسيون» الفرنسية وصفت المؤتمر بـ «كاريكاتور دبلوماسية الأمم المتحدة»! بينما طالبت صحيفة «دي بريسه» النمساوية بـ «إلغاء المؤتمر من الأساس لأنه لا يحمل أي جدوى على الإطلاق، لأنه أشبه بعقد مؤتمر لمكافحة الطقس السيء»! فمن لا يمتلك حجة ومنطقا، يلجأ إلى التهريج والسفسطة التي تدلّ على انهيارٍ أخلاقي وتفسّخٍ حضاري. فما دخل الظواهر الطبيعية بأكبر جريمة أخلاقية واجهت البشرية على هذه الأرض، وهي السياسات العنصرية الممنهجة ضد الآخرين، فقط لاختلافهم في العرق أو الجنس أو الدين أو اللغة واللون.
قبيل المؤتمر، قيل أن العرب والمسلمين تعرّضوا للخديعة، إذ فرض عليهم التخلّي عن ذكر جرائم «إسرائيل»، أو الإشارة إلى عذابات الشعب الفلسطيني... كل ذلك مراعاة لمشاعر «إسرائيل» الرقيقة. ومع ذلك لم يحتمل الغربيون كلمة واحدة من رئيس دولة إسلامية، يلمّح إلى قيام «نظام عنصري» في منطقتنا بعد الحرب العالمية الثانية... فيصفها المتحدّث باسم الخارجية الأميركية بأنها «خطابٌ مرعبٌ»، ولم يكن مرعبا مشاهد قصف غزّة طوال 22 يوما، حين راحت الطائرات تمطر المدارس والمستشفيات بالفوسفور الأبيض، وتطارد النساء والأطفال بقذائفها وصواريخها حتى وهم يلتجأون للمباني التابعة للأمم المتحدة.
في باريس اتهم مكتب الرئيس اليميني «المتطرف» ساركوزي الخطاب بإشاعة الكراهية العنصرية، ونسي أن الكراهية تصنعها السياسات الصهيونية، التي لم توفّر عنصريتها شيخا عجوزا مُقعَدا، كان خارجا لأداء صلاة الفجر، فقصفت كرسيه المتحرّك بصاروخٍ حوّل جسمه الضئيل إلى أشلاء.
الضمير الأوروبي لا يستيقظ على مظاهر القتل اليومي في فلسطين منذ ستين عاما، ولكنه ثار وجُنّ جنونه ولم يتحمّل سماع كلمة للرئيس الإيراني لم تستغرق نصف ساعة، ذكّرهم بأنهم أساس البلاء والدمار في الشرق الأوسط.
العرب كانوا أبرز الحاضرين المغيّبين في مؤتمرٍ يتناول العنصرية التي أوصلتهم إلى هذه الحالة من التشرذم والتشتت والضياع، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى التباهي بالتعاون الأمني مع العدو والتعهد بحفظ حدوده آمنة، وتكسير أرجل من يقاومونه والحكم عليهم بالإعدام. ألم يعبّر الخطاب اليتيم عن مكنونات الشعوب العربية المقهورة، التي كانت تحلم بسماع مثل هذا الخطاب بلغة الضاد؟
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 2420 - الثلثاء 21 أبريل 2009م الموافق 25 ربيع الثاني 1430هـ