الظهور الأخير لوزيرة الخارجية الأميركية كوندليزا رايس كانت له دلالة سياسية. ظهر أولا الرئيس جورج دبليو بوش وإلى جانبه وزير الدفاع دونالد رامسفيلد لكن المصورين الذين تجمعوا في مزرعة الرئيس في كروفورد بولاية تكساس تمهلوا حتى وصلت "كوندي".
صحيفة "وول ستريت جورنال" المفضلة عند الرئيس بوش والمقربة من حكومته احتفت في اليوم التالي في مقال ذكر أن السياسة الخارجية الأميركية أصبحت تدار ويجرى التخطيط لها في وزارة الخارجية وليس كما كانت في عهد الوزير السابق كولين باول تخضع لنفوذ المحافظين. رأي الصحيفة في محله فقد أصبحت السياسة الخارجية الأميركية أكثر وضوحا بعد تسلم كوندي منصب وزيرة الخارجية.
بعد تعيينها أمضت وزيرة الخارجية معظم وقتها خارج بلدها وبصورة فاقت الجولات التي قام بها الذين سبقوها في هذا المنصب. أسفرت زياراتها لعواصم أوروبا القديمة على حد تعبير رامسفيلد عن زوال التوتر الذي نشأ بين واشنطن وعدد من الحكومات الأوروبية بسبب حرب العراق. كما تراجعت عن عزم واشنطن على البحث عن بديل للمدير التنفيذي للوكالة الدولية للطاقة الذرية محمد البرادعي. سرعان ما تم إحياء المفاوضات بشأن البرنامج النووي الكوري الشمالي بعد أن كان بوش ابتدع اسم "السيد كيم" الذي راج في أحد أفلام جيمس بوند، عند حديثه عن زعيم كوريا الشمالية موضحا الخطر الذي يشكله هذا الرجل على الأمن العالمي. لكن رايس سمحت لكبير المفاوضين الأميركيين أن يطلب من كوريا الشمالية العودة إلى طاولة المفاوضات وكان هذا محظورا عليه في عهد باول.
حصل الأوروبيون على تأييد من واشنطن لمواصلة المفاوضات الدائرة مع إيران بشأن برنامجها النووي ما جعلهم يقدمون العروض ومنها دعم انضمام الجمهورية الإسلامية إلى منظمة التجارة العالمية وتزويدها بقطع الغيار لطائرات الركاب الأميركية الصنع التي تملكها في حال حصل تقدم على هذه المفاوضات. حصلت الولايات المتحدة على دور جذاب في السودان وتوصلت مع الهند، الدولة النووية إلى اتفاق تعاون في المجال النووي على الطريق لعقد تحالف بين البلدين من شأنه حفظ توازن القوى في آسيا.
وصف الدبلوماسي الأميركي المثير للجدل نيكولاس بيرنز سفير واشنطن في الأمم المتحدة والرجل الثالث في السياسة الخارجية الأميركية وصف هذا التحول بقوله: نعمل بالدبلوماسية التي شكا البعض من عدم وجودها، وخصوصا معشر الذين كانوا يقرون أننا قوة عظمى لكنا غير قادرين على توضيح سياستنا الخارجية. عادت وزارة الخارجية الأميركية بمجيء رايس لتشرف على السياسة الخارجية الأميركية بعد أن كانت تصنع في وزارة الدفاع الأميركية "البنتاغون". يبدو هذا أمرا عاديا للبعض لكن في عهد وزير الخارجية السابق كولن باول لم تكن السياسة الخارجية تصنع في وزارته. حين قرر بوش تعيين كوندي خلفا لباول وكانت لعبت دورا ضعيفا في منصب مستشارة البيت الأبيض للأمن القومي،أصرت على أن يجرى إعادة الاعتبار إلى وزارة الخارجية بإشرافها على وضع السياسة الخارجية للدولة. كما كان واضحا في بداية عهد بوش، هناك صراع دائم على السياسة الخارجية مع وزير الدفاع رامسفيلد، لكن رايس تحسم الصراع دائما لصالحها. يعود هذا إلى العلاقة القوية القائمة بين الرئيس ووزيرة الخارجية التي تقضي معه ومع أسرته عطلة نهاية الأسبوع أحيانا أو تشارك الأسرة السفر في إجازة. تقوم هذه العلاقة على مبدأ هات وخذ. معنى ذلك أن بوش ينصت لكوندي الموالية والمطيعة إليه. بالنسبة إلى صحيفة "وول ستريت جورنال" ترى فيهما زوجي القرن العشرين فيما يتعلق بصنع السياسة الخارجية الأميركية وبشكل تجاوز العلاقة بين الرئيس هاري ترومان ووزير الخارجية في حكومته دين أتشيسون أو بين الرئيس ريتشارد نيكسون وهنري كيسنجر على رغم أنه من غير العدل الحكم على هذه العلاقة بعد نصف عام فقط على تولي كوندي منصبها.
يجمع بين بوش ورايس تعلقهما بفلسفة مشتركة تصفها وزيرة الخارجية المولعة بعزف البيانو "الإيديولوجية العملية" والتي يختفي في طيها ما يدعو إليه بوش مثل تحمل الولايات المتحدة واجباتها في نشر الديمقراطية في العالم. أبلغت رايس صحيفة "واشنطن بوست" قبل أيام قولها: السياسة الخارجية الأميركية فيها طابع تصدير الديمقراطية والحرية وكشفت أن واجبها هو العمل على تحقيق هذا الهدف. خلافا لرايس فشل باول فشلا ذريعا في وضع بصماته على السياسة الخارجية الأميركية ولم يفلح في حسم المنافسة عليها لصالحه وخسرها للبيت الأبيض و"البنتاغون". عرف باول بتأييده سياسة الأمر الواقع لكن هذا كان بعيدا عن رغبة بوش والصقور حوله بتوسيع هيمنة الولايات المتحدة على العالم.
خلافا لسياسة الأمر الواقع كشفت رايس عن جوانب سياسة الإيديولوجية العملية حين زارت منطقة الشرق الأوسط بعد وقت قصير على تسلمها منصبها. في البداية أجلت زيارة مقررة لمصر على اثر اعتقال أحد رموز المعارضة المصرية، "أيمن نور"، وفي السعودية دعت إلى القيام بإصلاحات وتحقيق الديمقراطية وقالت بصريح العبارة: فضلت الولايات المتحدة خلال الـ 60 عاما الماضية الاستقرار على حساب الديمقراطية في المنطقة، والنتيجة أننا لم نحصل على الاثنين معا. تعلم رايس أنها تعرضت بذلك لمشكلات لم تستطع الادارات الأميركية وضع حلول لها خلال العقود الماضية. لكنها كوندي تقول: نحن ندرك أننا لن نحصل على كل ما نريده لكننا نسهم في وضع أسس جديدة لسياستنا الخارجية ستحصد الحكومات المتعاقبة نتائجها.
غير أن المؤرخين سيحكمون على رايس والسياسة الخارجية الأميركية من خلال نزاعات العراق وعملية السلام في الشرق الأوسط خصوصا، إذ صدقية الولايات المتحدة مرتبطة بهذين النزاعين بصورة خاصة. بعد حرب العراق خسرت الولايات المتحدة الكثير من سمعتها في الشرق الأوسط وفي العالم. مدركة أهمية نجاح السياسة الأميركية في الشرق الأوسط عينت رايس الثلاثي كارين هيوز التي تضع استراتيجية الدعاية الشخصية لبوش، لتروج للدبلوماسية الجديدة وتحسين صورة الولايات المتحدة، كما سيقوم الرئيس السابق للبنك الدولي جيمس ولفنسون بدور وساطة في قطاع غزة، وأن يعمل السفير الأميركي الجديد في العراق زلماي خليل زاده وهو من أصل أفغاني في دفع الأمور في العراق لتبرر واشنطن للعالم أن غزوها هذا البلد أدى إلى نتائج مشجعة. إنها سياسة الخطوات الصغيرة تلك التي تقوم بها رايس لإعادة الصدقية إلى السياسة الخارجية الأميركية لكن باعتقاد المحللين لن يكون هذا كافيا. ورأت صحيفة "نيويورك تايمز" أن نجاح رايس يعتمد على رغبة واشنطن في التراجع عن تأييدها الأعمى لـ "إسرائيل" والتوصل إلى حل عادل للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي وإنهاء احتلال العراق والتوقف عن التفكير في ضرب أو احتلال بلد إسلامي جديد وحل الخلافات السياسية بالطرق السلمية كما نادى المستشار الألماني شرودر، وأيضا على قدرة رايس على إقناع بوش بأن يرى العالم كما هو قائم وليس كما يراه شخصيا. وفقا للصحيفة هذا أكبر تحد في طريق وزيرة الخارجية الأميركية
العدد 1080 - السبت 20 أغسطس 2005م الموافق 15 رجب 1426هـ