تثير ثورة المعلومات والتطورات المتسارعة في مجال الاستخدامات الاقتصادية والاجتماعية للتكنولوجية جملة من الأسئلة بشأن دورنا وموقعنا في هذه التطورات. وتأتي معظم الاجابات على نحو مخيب للآمال بل ومحبط أيضا. ان الجهود المبذولة في مجال البحث العلمي والتكنولوجي - سواء النظري او التطبيقي - يتسم بالقصور الشديد.
كما أن المتغيرات والتطورات الاقتصادية العالمية بما في ذلك اتفاق الجات والتجرير الاقتصادي تبرز ذلك القصور بشكل حاد يدفعنا للحديث عن اهمية امتلاك القدرات التقنية والتكنولوجية والاسلوب الذي يتم التعامل به مع موضوع نقل التكنولوجية بما في ذلك عقود التكنولوجيا نظرا لما لهذا الموضوع - القدرات التقنية والتكنولوجية وليس الموارد الاولية - من اهمية متعاظمة في تقرير حجم المقدرة التنافسية للدول النامية.
ولا ننسى هنا التنويه الى حقيقة ان احدى النتائج الرئيسية التي ستنجم عن التطبيق الكامل لاتفاقات منظمة التجارة الدولية "الجات" هو التقلص التدريجي لاهمية المزايا النسبية التي تتمتع بها الكثير من الدول في مجال انخفاض تكلفة الخامات أو العمل، وبالتالي تقلص مقدرة صادرات هذه الدول على المنافسة في الاسواق العالمية. في المقابل فان القدرات التقنية والتكنولوجية ستزداد اهميتها في تقرير حجم المقدرة التنافسية لهذه الصادرات سواء السلع أو الخدمات.
ان للتكنولوجيا حياة اجتماعية قبل ان تصبح فاعلة "كقوة لها تأثير" فالآلات هي جزء من انظمة أصبح تطويرها واستخداماتها والمعاني التي توحي بها مغروسة من التحولات الاجتماعية. اما التركيز على المستخدمين فيميل الى تصوير المنطقة مجرد مستهلك للتكنولوجيا، وتصوير التكنولوجيا متحول مستقل، "صندوق اسود".
وبالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي، فان تنمية المجتمع وتحقيق استقلاله يتطلبان من هذه الدول الا تعمل فقط على نقل واستخدام المنتجات التكنولوجية، بل ينبغي توفير الاجواء المناسبة لتجذير التكنولوجيا وابتكارها محليا، مع استثمار الموارد والامكانات المحلية لتحقيق ذلك، وحتى يمكن لهذه الدول الاضطلاع بذلك ينبغي عليها ان تعمل جاهدة للحصول على التكنولوجيا والمهارات الفنية والادارية المناسبة التي تسهم مساهمة فعالة في بناء وتنمية قدرات تكنولوجية وطنية. اضافة الى ايجاد هيكلية مؤسسية متسقة تمكن القدرات التكنولوجية الوطنية العمل من خلالها على تطويع واقلمة التكنولوجيا المستوردة لتحقيق التنمية المنشودة.
من هذا المنطلق، لقد ادرك الكثير من الدول الخليجية - شأنها في ذلك شأن الدول النامية - الاخرى اهمية عقود التكنولوجيا والشروط والاحكام التي ترد فيها، ودور هذه العقود في نقل وحيازة التكنولوجيا الاجنبية. وغدا الامر يقينا عندها بأن هذه العقود هي البوابة التي تمر عبرها التكنولوجيا الى الاطراف المحلية. فمن هذا المنطلق بدأت تلك الدول بتقنين عملية حيازة التكنولوجيا الاجنبية، وتركزت الجهود على موضوع اختيار التكنولوجيا والشروط والاحكام التي من خلالها يتم الحصول على التكنولوجيا، ولذلك تم تأسيس الكثير من المؤسسات الوطنية الخاصة بمراقبة ممارسات نقل التكنولوجيا، واصدرت تباعا لذلك التشريعات الوطنية التي تنظم النقل التجاري للتكنولوجيا. ويمكن الحكم على دور وفعالية عقود التكنولوجيا المبرمة من قبل دول المجلس في ما يمكن ان تسهم به في مجال تجذير وتوطين التكنولوجيا محليا. وهنا لابد من العودة لهذه العقود وقراءة بنودها واحكامها للتعرف على مدى فعاليتها.
في دراسة لأحد الخبراء الاقتصاديين في البحرين عن "عقود التكنولوجيا" يلاحظ ان غالبية العقود المبرمة في قطاع النفط - وهي الصناعة الرئيسية بدول المجلس والتي من خلالها يمكن تعظيم الفوائد التي تجنى من نقل التكنولوجيا - وهي عقود تراخيص "براءات اختراع" أن هذه العقود اهملت - وفي كثير من الاحيان - التركيز على بناء القدرة التكنولوجية والهندسية الذاتية. كما تفتقر معظم عقود التكنولوجيا، لاسيما عقود "تسليم المفتاح" الى عضو الاستفادة من المدخلات المحلية في الانتاج. واغفلت جميع الاتفاقات التكنولوجية في القطاع الصناعي "القرار التكنولوجي" بإنشاء وحدات للبحث والتطوير في المؤسسات الصناعية.
وانطلاقا من قراءة لهذه العقود تلخص الدراسة الى حقيقة مؤلمة وهي ان ادعاء الدول المتقدمة بأنها تبذل الجهود لتسهيل تلك العملية، وانها تسعى الى تذليل العقبات والصعاب التي تواجه تدفق التكنولوجيا الى الدول النامية، قول ليس فيه صدق في النوايا والتوجهات.
وانطلاقا من هذه الملاحظات تبرز هناك حاجه فعليه لايجاد وتطور دور وحدات البحث والتطوير سواء على مستوى المصانع نفسها او على المستوى الوطنى ومن شأن هذه الواحدات ان تضطلع بدور رئيسي في نقل واكتساب وتطويع وتطوير التكنولوجيا المستوردة لمواءمة المدخلات والعمليات المحلية واشباع الحاجات الاساسية للمجتمع. ان هذه المؤسسات بغض النظر عن حجم هيكلها التنظيمي، توفر الاطر المؤسسية، لدراسة المشكلات التي تعترض سبيل نمو وتطور الصناعة الوطنية وايجاد الحلول المناسبة لها. وهذا يمثل بداية الانطلاق نحو توطين المهارات والقدرات التكنولوجية وطنيا في المرحلة الاولى ومن ثم العمل باتجاه تصدير الممارسات والخبرات التكنولوجية المولدة محليا، والاتجار على نطاق واسع في سوق التكنولوجيا في المرحلة اللاحقة. ان الخبرة اللازمة لتنمية نشاط البحث والتطوير لا يتم اكتسابها الا عن طريق المشاركة المنتظمة والفعلية في هذه النشاطات.
ان الانماط المتبعة حاليا من قبل الكثير من دول مجلس التعاون الخليجي في مجال نقل التكنولوجيا لا يفضى بصورة فعالة الى تجذير وتوطين القدرات التكنولوجيا وطنيا. ان التحديات الكثيرة القادمة ومن بينها اتفاقات الجات تفرض على دول المجلس اعادة النظر جذريا في هذه الانماط في سبيل السعي لاكتساب عنصر قوة جديد ومتجدد حينما تتراجع اهمية عناصر القوة التي ظلت هذه الدول تعتمد عليها ردحا طويلا من الزمن
إقرأ أيضا لـ "علياء علي"العدد 1079 - الجمعة 19 أغسطس 2005م الموافق 14 رجب 1426هـ