مشهد الانسحاب الإسرائيلي من مستوطنات الاحتلال في غزة يتكرر يوميا على شاشات التلفزة. المشهد أحسن هندسته لتسويقه خارجيا وتصويره للرأي العام العالمي وفق نمطية تخدم في النهاية أهداف رئيس الحكومة أرييل شارون. فالصور التي تبثها وكالات الأنباء تركز على ذاك الاصطدام بين القوات الإسرائيلية والمواطنين، مشيرة إلى وجود مشكلة سياسية تواجه شارون وصعوبات تعطل إمكانات التفاهم بين الدولة و"المستوطنين" المتضررين من الانسحاب.
المشهد واضح في دلالاته السياسية، فهو يريد توجيه رسالة تؤكد ضخامة الخسائر الإسرائيلية وجسامة التضحيات التي قدمها شارون من أجل "السلام" و"خريطة الطريق". فالمشهد لا يذكر فلسطين ولا يتذكر مأساة الفلسطينيين، وإنما يركز على الطابع الاستيطاني لتلك الأرض... وكأن الأرض لا صاحب لها.
اختصار مشهد الانسحاب على جانب واحد يلغي من عقل المشاهد "المتلقي" الجانب الآخر من الصورة... وهو بطبيعة الحال ذاك الفلسطيني المشرد القابع في المخيم ينتظر ساعة الفرج منذ قرابة 40 سنة على الاحتلال.
خطة الانسحاب من غزة مدروسة إعلاميا كما تظهر المشاهد من تلك الصور المرسلة للاطلاع عليها في الخارج. فالخطة الإعلامية واضحة وهي تريد أن ترسل إشارة تركز على التضحيات التي قدمها الجانب الإسرائيلي لإنجاح فكرة "السلام" كما نصت عليها "خريطة الطريق".
في المقابل لا نجد فلسطين في الصورة. فالفلسطيني خارج المشهد وكذلك معاناته ومأساته وتضحياته. هذا الانحياز الإعلامي يعيد تأكيد تلك العلاقة الملتبسة بين الاحتلال وأصحاب الأرض. فالصور تزور الوقائع وتقلب الحقائق. فالمراقب الذي يتابع المشاهد المرسلة يتوهم بأن المستوطنين هم أصحاب الأرض وأن دولة الاحتلال تريد انتزاعها منهم وتقديمها هدية للفلسطينيين ومن دون مقابل خدمة للسلام ومشروع "خريطة الطريق".
هذه الغاية التي يراد تسويقها إعلاميا في الغرب "أوروبا وأميركا" تخدم شارون على الأمد الطويل وتعطيه المزيد من الذرائع السياسية للتمسك بتلك المستوطنات في القدس والضفة الغربية وتمنحه فرصة لإعادة توطين المستوطنين في مناطق فلسطينية تسكنها غالبية عربية.
شارون لم يتأخر في الاستفادة من هذه اللحظات ولم يتردد في إعلان أن الانسحاب من غزة وفر فرصة لحكومته لتأكيد شرعية المستوطنات في المناطق الفلسطينية الأخرى. وبكلام شارون "جاء الانسحاب من غزة لمصلحة البقاء في المناطق الأخرى". فهل معنى الأمر أن الانسحاب توقف ولن تتكرر المشاهد نفسها في الضفة الغربية والقدس؟ الاحتمال وارد. ويرجح أن تكون خطوة الانسحاب من غزة هي الأخيرة في إطار القراءة الإسرائيلية "وربما الأميركية" لمشاهد الاصطدام بين الدولة العبرية والمستوطنين. فالصور المنقولة من الواقع إلى شاشات التلفزة تكرس فكرة قلب الحقائق التي تلغي من عقل المتلقي تاريخ الاحتلال وضحاياه. فالضحية كما يراها المشاهد هي "المستوطن" وليست الفلسطيني المطرود أصلا من صورة المشهد.
إقصاء الفلسطيني من إطار شاشات التلفزة يثير تلك الأسئلة عن شارونية الخطة وما تبغيه من المسألة في الأسابيع والشهور المقبلة. شارون مثلا، قاد الاجتياح الإسرائيلي واحتل لبنان في يونيو/ حزيران 1982 بعد الانتهاء من خطة الانسحاب الإسرائيلي من سيناء في أبريل/ نيسان .1982 وبين الانسحاب والاحتلال فترة أسابيع قليلة لا تتجاوز مدة الشهرين. فثمن الانسحاب من سيناء كان احتلال لبنان بعد أن عزلت مصر عن الجبهة العربية.
وتكررت الخطة الشارونية حين انسحبت القوات الإسرائيلية مهزومة أمام مقاومة حزب الله في نهاية مايو/ أيار .2000 وبين الخروج من لبنان ودخول شارون وجحافله المسجد الأقصى في سبتمبر/ أيلول 2000 فترة أسابيع قليلة وتتجاوز مدة الشهور الثلاثة. وهي فترة كانت كافية لشد الانتباه إلى الداخل الفلسطيني واندلاع الانتفاضة الثانية التي لاتزال مستمرة.
الآن. ما هي خطة شارون الجديدة؟ فهل تشهد المنطقة هجمة لتعويض تلك "الخسائر" أم تشهد فلسطين معركة "تهويد" الأراضي المحتلة لإسكان المستوطنين المستجلين من غزة؟
المسألة تحتمل أكثر من جواب. إلا ان قراءة المشهد المنقول من المستوطنات الإسرائيلية تشير إلى خطة شارونية تريد استثمار تلك الصور التي قلبت الحقائق وأظهرت المستوطن "ضحية" وغيبت عن الشاشة الفلسطيني التائه في أرضه
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1079 - الجمعة 19 أغسطس 2005م الموافق 14 رجب 1426هـ