انتقد السيد محمدحسين فضل الله، "التربية العشائرية" التي تجعل الجماهير خاضعة للرموز الدينية والسياسية والطائفية، رافضا تقديس غير المقدس ومؤكدا أن الالتزام الديني لا يمنع المؤمن من نقد الزعامات الدينية غير المعصومة.
وأكد مسئولية المحاور الدولية والاستكبار العالمي عن الحال التربوية التدميرية التي تضرب الواقع العربي والإسلامي إلى جانب المسئولية التي تقع على عاتق البيئة المتخلفة عندنا.
وحذر فضل الله من أننا مقبلون على حرائق أمنية وسياسية أكثر امتدادا، وخصوصا في ظل اللعبة الأميركية التي تحاول تفجير المنطقة وإشعالها بالحروب والفتن.
سئل في ندوته الأسبوعية بشأن التربية الإسلامية وقواعدها وأثرها في واقع العنف في المنطقة والعالم؛ أجاب: الهدف الإلهي من بعثة الأنبياء يتمثل في صناعة الإنسان وبنائه تربويا وروحيا بما يؤسس لمجتمع العدل العالمي، الصالح والمتآلف، الذي لا يظلم فيه إنسان إنسانا ولا يعتدي فرد على آخر ولا مجموعة على أخرى، ولذلك قال النبي "ص": "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". ولتحقيق هذه الغاية وضع الإسلام مجموعة من الوسائل الكفيلة بذلك، إذ نلاحظ أن منظومة العبادات الإسلامية تهدف أساسا إلى تربية الإنسان وتهذيبه ومحاصرة نزعاته العدوانية وغرائزه الجموحة. فالعبادة ليست مجرد طقوس جوفاء ولا تهدف إلى محاصرة الإنسان بالقلق والخوف أو عزله عن المجتمع بل تسعى إلى صناعته تربويا وروحيا لينفتح على الكون برمته، وعلى الآخرين من خلال انفتاحه على الله، وليكون رحيما بكل من حوله من خلال إحساسه برحمة الله الشاملة والواسعة.
وتابع: وأولى الإسلام الأهمية الكبرى للمناهج التربوية التي تتكفل بصناعة الإنسان، إذ نلاحظ المنهج التربوي الإسلامي الذي لابد أن يرتكز على فهم الإنسان أولا بكل خصوصياته وأبعاده، لأن هذا المنهج في الأصل جاء لصناعة هذا الإنسان، ولابد من أن ينطلق واضعو البرامج الدينية من هذا الأساس، ومن ملاحظة الرؤية الشمولية للدين ومقاصده، بعيدا عن النظرة المجتزئة التي تحدق في جانب من الصورة لتغفل الجوانب الأخرى، ما يؤدي إلى شرخ كبير في واقع الأمة المأزوم بسبب المناهج التربوية المشوهة والتجزيئية.
وقال: لذلك فنحن في الوقت الذي رفضنا ونرفض الأسلوب التربوي لبعض الحركات الإسلامية وغيرها التي تستغرق في الجانب الروحي والغيبي على حساب الأمور الأخرى، فقد رفضنا ونرفض المدرسة المادية الغربية التي عملت على صوغ المناهج التربوية من خلال الاستغراق في الجوانب المادية للإنسان وإهمالها للجوانب الأخرى، إذ إننا نعتبر أن هذه المادية التربوية هي المسئولة إلى حد كبير عن الكوارث السياسية والاجتماعية التي تصيب العالم في هذه الأيام وهي المسئولة أيضا عن هذه الوحشية التي تجتاح العالم في قتل الإنسان للإنسان بلا رحمة ودونما وازع. وبذلك نرى أن العالم أصبح في هذه الأيام فريسة لنوعين من الوحشية، الوحشية المادية التي تغتال الإنسان لتحول البشر والحجر إلى ما يشبه حقل التجارب الذي يقتل فيه الإنسان بعيدا عن كل الاعتبارات الإنسانية والأخلاقية ولا تحركها إلا المصالح المادية، والوحشية الأخرى هي تلك المغلفة باسم الدين والتي ترفع شعاراته وتسفك الدماء باسمه بسبب اضطرابها التربوي وابتعادها عن خط التوازن الذي أكده الدين، وهي بذلك تجرم بحق الدين والمتدينين من حيث تشعر أو لا تشعر.
وأضاف: أن ثمة خطورة تكمن في التربية الخاطئة التي تبدأ عندنا من البيت والتي تعمل على تجميد حركة الإنسان الفكرية من خلال القمع الداخلي، إذ يمنع الأب زوجته وأولاده من التفكير وإبداء الرأي حتى بما يتصل بأمورهم الخاصة، وحتى مع كونهم يتمتعون بالمستوى الثقافي الذي يؤهلهم إلى إعطاء الرأي السديد، وبذلك فإننا نتربى على الخضوع للقوي من المنزل ومن بيئتنا الداخلية. وحتى الأحزاب عندنا تفرض في أساليب عملها الحزبي تقديس الرموز الحزبية التي لا تملك القداسة وإن كانت تحظى بالاحترام في بعض جوانب حركتها وشخصيتها، وعندما يمنع الحزبي من توجيه الانتقاد لمراكز القوى في الحزب على أساس أن ذلك قد يعرضه للطرد أو لملاحقة، فإن التنظيم الحزبي يصبح مقفلا بطريقة وأخرى ولا تتحرك فيه التنوعات الفكرية التي تغني الخطط السياسية والاجتماعية وما إلى ذلك.
وأردف: وربما يمتد هذا الخط إلى المرجعيات الدينية التي تأخذ عناوين تقديسية لا يملك أحد معها انتقاد آرائها وخطواتها التي قد تخطىء، لأن ذلك مناف للقداسة الدينية، في الوقت الذي يعرف الجميع أن الالتزام الديني لا يمنع المؤمن من نقد الزعامات الدينية غير المعصومة، لأن ذلك هو الذي يمنعها من الاستمرار في الخط الذي قد تكون له نتائج سلبية على مستوى القرارات المتعلقة بحياة الناس الدينية العامة. وتنسحب هذه الخطورة على المسألة الطائفية، إذ يقدس رموز الطائفة ويفرض رأيهم على حساب الكفاءات، وتمتد هذه التربية العشائرية لتجعل الجماهير خاضعة للرموز الدينية أو السياسية لهذه الطائفة أو تلك بما يهيئ إنساننا إلى الخضوع للاستكبار الخارجي في التجارب اللاحقة بحيث يغدو خضوعه طبيعيا أو لا شعوريا بعدما خضع سابقا للكثير من الجهات الدينية والسياسية التي تختزن التخلف والخرافة، وينسحب ذلك على تهميش أو تعطيل الحياة السياسية في المحطات الانتخابية، إذ إن هذه الطريقة في التربية تفرض الخضوع لأسماء قد لا تملك الكفاءة وعندما تغيب المقاييس الفكرية والإمكانات الأساسية في ذلك، فمن الطبيعي أن يصار إلى تغييب الأصالة في العملية السياسية والانتخابية لحساب التبعية والخضوع.
وخلص إلى القول: إن ذلك لا يعني أن المحاور الدولية والاستكبار العالمي ليس مسئولا عن الحال التربوية التدميرية التي تضرب واقعنا العربي والإسلامي من خلال رعايته للأنظمة التي أخضعت شعوبها أمنيا ومخابراتيا، ومن خلال ضغطه غير المباشر لمنع الدورة السياسية في بلادنا من أن تأخذ مجراها فتنجب قوى سياسية وحياة فاعلة لتؤسس لمجتمع الرحمة والانفتاح السياسي والعلمي، ولذلك فإن الغرب في كثير من دوائره لا يستطيع أن يتنصل من رعاية هذه الحالات العنيفة التي ترفض الآخر بشكل مسبق وترفض الحوار معه، ولا يستطيع أن ينفي أن البيئة السياسية التي نمت فيها الدكتاتوريات في المنطقة والتي كان ولايزال مسئولا عن معظمها هي التي أسست مدارس العنف التي ترفض الآخر سواء تلك التي لها طابع ديني أم سياسي. إننا نحذر وفي ظل استمرار هذه البيئة التربوية والسياسية من أننا مقبلون في المنطقة على حرائق أمنية وسياسية أكثر امتدادا، وخصوصا في ظل اللعبة الأميركية التي تحاول منع ولادة خيار ثالث بين ما تريده من خيار السيطرة على المنطقة بثرواتها وقرارها السياسي أو خيار تفجيرها وإشعالها بالفتن والحروب بعد الإفساح في المجال للحديث عما يشبه التقسيم أو ترك الأمور تتجه نحو ما يمكن تسميته "التقسيم الواقعي" أو التجزئة الميدانية التي تنمو في ظل أشكال من الكيانية الجامعة وغير المنضبطة.
وختم: ونحن في الوقت الذي نحذر من هذا المخطط بكل كوارثه ومآسيه المقبلة، نريد للذين يتحركون في الميادين السياسية والشعبية أن يلتفتوا إلى بعض المواقف غير المدروسة والتي تصب الزيت على النار، سواء أتنبهوا لذلك أم لم يتنبهوا، وأن لا يفسحوا في المجال لخطاب التجزئة أن يتسرب إلى ساحاتهم، لأننا مسئولون جميعا وعلى المستويات السياسية والدينية عن حماية وحدة الأمة وصون ائتلافها الداخلي بالعمل على لم الشمل والسعي لإخراج المحتل الأجنبي من أرضنا ومن ذهنياتنا وصولا إلى طرده ومنعه من اختراق نسيجنا الديني والاجتماعي والوطني. إننا نؤكد دور التربية الإسلامية في دفع الناس إلى أن يفكروا في كل الأمور منذ المراحل الأولى للعمر، وفي هذا الاتجاه لابد من التركيز على مناقشة كل الأفكار المطروحة في الساحة دينية كانت أو سياسية والابتعاد عن تقديس غير المقدس، فلا أحد في واقعنا كله فوق النقد، وهذا هو الذي يمنع من سيطرة أي فكر يثيره أصحاب المراكز المرموقة في المجتمع ويساعد على تصحيح الأفكار الخاطئة ولا سيما أفكار العنف الدامي التي صنعت لنا فكرا يبرر قتل الإنسان على أساس اختلاف الفكر على قاعدة دينية مسلما كان أو غير مسلم، واعتبار القتل على أساس الاختلاف جهادا مقدسا
العدد 1078 - الخميس 18 أغسطس 2005م الموافق 13 رجب 1426هـ