فيما ارتفعت الأصوات في الأوساط الأوروبية ومن قبل المثقفين الاكراد والأتراك بوقف الحرب ضد العمال الكردستاني، قام رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان بزيارة إلى ديار بكر الكردية وأدلى من هناك من مدينة ديار بكر الكردية الجريحة، يقلم الاكراد بمواقف علنية تعتبر الأولى من نوعها، إذ قال أردوغان "نعترف بأخطائنا السياسية الماضية وسنصلحها"، وقال: "إن القضية الكردية ليست حصرا على الأكراد بل هي قضية تركيا بالكامل وأبدى استعداده متوعدا لحل القضية على "أسس ديمقراطية وقانونية".
وكان أردوغان وهو يلقي كلمته بحماسة وبعصبية على غير عادته في المهرجان الجماهيري الذي أقامه في مدينة ديار بكر الكردية وفي أوساط شعبية لكي لا يكون حضورا زخما، قال: "تركيا ارتكبت أخطاء في الماضي وعاشت أياما صعبة مثلها مثل أية دولة أخرى في العالم وأنها تدرك جيدا أن إنكار هذه الأخطاء لا يليق بها".
مواقف أردوغان الجديدة أثارت انتقادات في الساحة التركية خصوصا في وسط الشوفينيين الترك، الأمر الذي دفع بعض الأوساط بمطالبتها لأردوغان بإجراء انتخابات مبكرة في البلاد ورد أردوغان على هؤلاء أثناء إلقاء كلمة له في مؤتمر نسائي لـ "العدالة والتنمية" ووصف أردوغان إجراء انتخابات بـ "خيانة للوطن"، وأكد أن إجراء الانتخابات سيكون في موعدها المحدد. كلام أردوغان كان تحديا لواقع تركيا ولقوى معارضة أيضا، تحديا لواقع تركيا، لأنه ومنذ العقدين الأخيرين من تاريخ تركيا الحديث لم يتجاوز عمر الحكومات المتعاقبة الثلاث السنوات وكانت أصوات أحزاب المعارضة ترتفع وتطالب بضرورة إجراء انتخابات. لأن كل المعارضة ترى في حكومة أردوغان أنها فشلت في إيجاد حلول لمشكلات البلاد السياسية والاقتصادية.
المراقب لا يصدق بسهولة وجهة نظر المعارضة لأن المعارضة لم تأت بأدلة دامغة لفشل حكومة أردوغان، بل اعتبرت توقيعها "الحكومة العدالة والتنمية" على البروتوكول الإضافي لاتفاق الاتحاد الجمركي مع الاتحاد الأوروبي فشلا، لماذا فشل لأن التوقيع يعني اعترافا بقبرص، هذا يعني أن المعارضة لا تعتبر تقرب تركيا إلى الاتحاد إنجازا وطنيا وهي بذلك تضع المعارضة نفسها في جملة من التناقضات وزادت المعارضة تناقضاتها عندما اعتبرت تحرك أردوغان لحل القضية الكردية لأنه بدا أن المعارضة غير مهتمة في إنقاذ البلاد من نزيف الدم ومن الشروخ الاجتماعية بل تريد أن تبقي على الأزمة لأن يتعجب أحدنا بأنه كيف أن الحل لقضية مزمنة كقضية كردية سيؤدي إلى تقسيم البلاد. نظريا وعمليا وحتى تأمليا إيجاد الحلول يعني لملمة التشرذم وذلك خير ما فعل أردوغان عندما وصف معارضيه بأن مواقفهم هذه "متاجرة بدم الشهداء" وكان ضربة المعلم عندما دعى أردوغان المعارضة والفعليات التركية إلى اجتماع وطني وتقديم اقتراحات وأفكار لحل مشكلات مزمنة في تركيا. وخير ما فعلت الأحزاب الكردية عندما رحبت بمواقف رجب طيب أردوغان "رئيس وزراء تركيا" بشأن حل القضية الكردية في تركيا، لأن هذه المواقف تعد الأولى من حيث أهميتها ومعانيها منذ فترة طويلة، وتأتي أهميتها وصدقيتها أكثر لأنها جاءت على لسان مسئول تركي كبير بمستوى رئيس الوزراء، لأن هذه المواقف ستعزز من آمال الشعوب التركية جميعا وتنقله إلى حياة ديمقراطية حقيقية تصان فيها حقوق سائر مكونات المجتمع التركي إذا ترجمت إلى الواقع.
لاشك في أن الحلول العسكرية لا تجني خيرا للبلاد، وهذا ما أثبتته تجارب الشعوب، وربما أدرك أردوغان أهمية الحوار والحلول السلمية وبالوسائل الديمقراطية وأدرك أيضا أن حل القضايا القومية لا تتم من طرق العسكرية. ولذلك كانت الانطباعات الكردية إيجابية وهذه المواقف الإيجابية خلقت موجة من الارتياح لدى الاكراد عموما، أما على مستوى أكراد تركيا الذين يشكلون تقريبا خمس سكان تركيا البالغ عددهم 70 مليونا، فكان لها معنى خاص وذلك لعدة أسباب: 1- ان اكراد تركيا عانوا في ظل المؤسسة العسكرية التركية من شتى صنوف القمع والاضطهاد، ولم يعتادوا على أن يسمعوا خطابا مدنيا متقدما مثلما حدث في دياربكر "آمد بالكردية"، وهو من دون أدنى شك سيسهم في فتح الباب على مصراعيه أمام حل سلمي سياسي ومدني للقضية الكردية في تركيا.
2- لأن كلام وخطاب أردوغان أعطى صدقية لحراكهم، في الوقت الذي يقف الكل ضدهم وكما أن الخطاب أوحى لهم بأن قضيتهم أصبحت في أيدي مدنيين وتناقش في أعلى مستوى.
3- إن هذا الخطاب يستبعد الخيار العسكري وهو بالتالي يوقف نزيف الدم وهو ما أكده أردوغان "أريد أن تعلموا أن تركيا لن تعود إلى الوراء "..." لن نسمح بأي تراجع في العملية الديمقراطية". والحل المدني رفعه أردوغان عاليا "سنحل جميع المشكلات بمزيد من الديمقراطية والحقوق المدنية والازدهار".
4- الخطاب يسهم في طمأنة الأكراد ويضع احتمال صدور عفو عام عن مقاتلي حزب العمالي الكردستاني ويقرب تركيا أكثر إلى الاتحاد الأوروبي.
5- الخطاب يرسخ أهمية رفع حال الطوارئ التي كانت فرضتها السلطات منذ 15 سنة في المناطق الكردية ويعمق مفهوم السماح بشكل أكثر عملي لبث برامج باللغة الكردية في التلفزيون والإذاعة التركيين وفتح معاهد خاصة لتعليم اللغة الكردية.
6- يفتح صفحة جديدة في العلاقات بين تركيا والأكراد الذين يقاتلون ويضحون من أجل حقوقهم منذ "1984" وقد ضحوا بـ "37" ألف شخص.
بقي القول إن كل الأكراد يرون في خطاب أردوغان الجديد أنه خطاب متطور ومسئول، لكن سيبقى خطابا خلبيا إذا بقي في خانة المجاملات، ما يهم الكرد في هذه الوعودات هو كيفية ترجمة ما وعد بها أمام الحضور ووسائل الإعلام، لأن ليس كل وعد ينفذ ويترجم إلى الواقع، وسبق بقيت الوعود دائما في إطار شفهي وغير عملي كان غير أردوغان وعد أيضا بالديمقراطية والحريات لكن لم يترجم إلى واقع بل ترجم إلى القتل والتشريد
إقرأ أيضا لـ "فاروق حجي مصطفى "العدد 1078 - الخميس 18 أغسطس 2005م الموافق 13 رجب 1426هـ