مشهد الانسحاب الإسرائيلي من غزة وإجلاء المستوطنين وهدم المستوطنات وحرق البيوت يستدعي قراءة واقعية للتحولات الجارية على الأرض. فالمشهد تاريخي في صورته العامة، فهو ينعش الذاكرة ويجدد رسم تلك الصور التي ظهرت في أعقاب الانسحاب النهائي من سيناء في العام 1982 أو تلك التي ظهرت إثر هزيمة الاحتلال في جنوب لبنان في العام .2000
الصور متشابهة وإن اختلفت الأسباب والدوافع والمسببات. فالانسحاب الذي جرى في العام 1982 جاء في إطار اتفاقات كامب ديفيد التي وقعها الرئيس أنور السادات مع رئيس الحكومة الإسرائيلي مناحيم بيغن في عهد الرئيس الأميركي جيمي كارتر. والانسحاب الذي اضطرت إليه "إسرائيل" من جنوب لبنان في العام 2000 جاء على خلفية المقاومة اليومية التي وضعت الاحتلال أمام مأزق كان من الصعب التخلص منه من دون الإقدام على خطوة الخروج من الأراضي اللبنانية من دون قيد أو شرط أو اتفاق سياسي. والانسحاب الذي نفذته "إسرائيل" أمس "17 أغسطس/ آب 2005" من غزة جاء بدوره في سياق مواجهة يومية أملت على حكومة ارييل شارون القبول بخطوة الخروج من غزة حتى لا تتسع رقعة الخسائر في المستقبل.
المشهد واحد وصوره واحدة وإن اختلفت أسبابه ودوافعه ومسبباته بين سيناء وجنوب لبنان وغزة. فكل الطرق أدت إلى نتيجة متشابهة وهي الانسحاب من أراض أخذت بالقوة. وهذا يعني سياسيا أن القوة لا تقرر كل شيء لأنها في النهاية محكومة بسلسلة شروط تحد من تأثيرها وإمكانات تغييرها للوقائع الميدانية.
مشاهد الانسحاب من سيناء وجنوب لبنان وغزة تكررت في العقدين الأخيرين وتشابهت في نتائجها الميدانية وإن اختلفت في أسبابها... ولكنها كلها جرت تحت سقف "القانون الدولي" الذي ينحاز دائما إلى القوي ويميل إلى تبرير سياسات القوة وتغطيتها، إلا أنه لا يستطيع أن يمنع الضعيف أو المهزوم من المقاومة وتعديل موازين القوى لمصلحته. فالقانون الدولي مع القوي ولكنه لا يملك القوة لمنع صاحب الحق من المطالبة بحقه أو الدفاع عن حقوقه.
الانسحاب من سيناء مثلا جرى في إطار اتفاقات سلام ولكنه حصل في ضوء النتائج الميدانية التي أسفرت عنها حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 وتحت غطاء القرارات الدولية. والانسحاب من جنوب لبنان جرى أيضا بفعل ضربات المقاومة "حزب الله" وتحت سقف القرار الدولي .425 فالقرار لم يخرج الاحتلال من لبنان ولكنه لم يمنع المقاومة من أخذ المهمة على عاتقها والضغط على "إسرائيل" وإجبارها على احترامه وتنفيذه. كذلك الانسحاب الذي جرى أمس من غزة فهو جاء نتاج مجموعة مختلفة تألفت من عناصر المقاومة والضغوط السياسية الدولية والإقليمية وفشل "إسرائيل" في تطويع القطاع.
هناك الكثير من القرارات الدولية التي يمكن استخدامها لمصلحة المقاومة وضد الاحتلال في وقت كان هدفها تغطية العدوان وتبرير سياسة القوة ودعم الأقوياء ضد الضعفاء. فالمشكلة أحيانا ليست في القرارات على رغم كل سلبياتها وثغراتها وإنما تكون في الأطراف المتضررة منها وأسلوب التعامل معها وصولا إلى استخدامها لمصلحة الضعيف ضد القوي. وهذه المشكلة سببت الكثير من الخسائر وزادت من أرباح "إسرائيل" وقللت من إمكانات النجاح في كسب المعركة الدبلوماسية ضد مخططات الاحتلال والعدوان.
هناك الكثير من القرارات الدولية التي صدرت منذ نصف قرن وفشلت الدول العربية في الاستفادة منها واستخدامها لمواجهة المشروع الصهيوني. وتلك القرارات عامة وتشمل قطاعات مختلفة تتعلق بجوانب متعددة الشئون ومتفرعة من القضية الأساس: فلسطين.
حتى الآن مثلا لم تحسن الدول العربية استخدام إيجابيات القرار الدولي المتعلق بحق عودة الفلسطينيين وتعويضهم، كذلك لم تحسن استغلال بعض العناصر الرافضة للاحتلال في القرار 242 وأيضا القرار .338 فكل هذه القرارات على سلبياتها تتضمن عناصر إيجابية يمكن الاعتماد عليها وتطويرها ميدانيا لمحاصرة الاحتلال ودفعه بالقوة للخروج من الأرض التي توافق "القانون الدولي" على اعتبارها محتلة. فالقانون لا يتحرك لوحده وإنما بحاجة إلى قوى بشرية تحركه وتلاحقه وتعمل على تحويله إلى وقائع ميدانية تجبر المحتل على تنفيذه.
المطالبة بتنفيذ القرارات الدولية مسألة نظرية وتلقى الاهتمام والتفهم من مختلف الجهات المعنية... إلا أنها ليست كافية إذا لم تقرن بالفعل الميداني وبسياسة عملية تؤرق العدو وتفرض عليه إعادة التفكير في التوسع والاحتلال والاستيطان.
مشهد الانسحاب الإسرائيلي من غزة أنعش الذاكرة وأكد مجددا أن القرارات الدولية لا تملك آليات مستقلة للتنفيذ وإنما بحاجة دائما إلى قوى بشرية تتحرك على الأرض وتدفع موازين القوى إلى التعديل ميدانيا لمصلحة الضعيف والمهزوم
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1077 - الأربعاء 17 أغسطس 2005م الموافق 12 رجب 1426هـ