في أي سياق نضع فيه خطوة الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة. فهل الانسحاب يأتي في سياق الوصف الذي ذكره الرئيس الفلسطيني محمود عباس حين أكد "تاريخية" الخطوة وأنها الأولى وليست الأخيرة أم يمكن وضعه في سياق آخر وصفه رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل حين ذكر أن الخطوة هي بداية نهاية "إسرائيل"؟
كلام الرئيس الفلسطيني أكثر تواضعا وأقرب إلى القراءة الموضوعية للواقع وموازين القوى بينما كلام "حماس" يميل إلى تغليب لغة تحاول أن ترى المستقبل من منظور تاريخي يؤسس لرؤية تتجاوز الراهن وما يتضمنه من عثرات ومشكلات.
الوصفان صحيحان. فالأول "أبومازن" يرى المستقبل من خلال الحاضر، والثاني "مشعل" يرى الحاضر من خلال المستقبل. وفي النهاية هناك حقيقة وهي ان "إسرائيل" تنسحب من أرض احتلتها في العام 1967 وتجرف معها 21 مستوطنة يقطنها 8265 مستوطنا يقيمون في 2526 منزلا و221 بناية عامة. وهذا في المنظور الإسرائيلي خسارة مالية ضخمة تقدر بحوالي مليار و700 مليون دولار... وخسارة معنوية لا تقدر كلفتها النفسية وتأثيرها السلبي على ايديولوجية أجيال قيل لها ان فلسطين هي "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض".
تأسست فكرة "إسرائيل" في أوروبا في القرن التاسع عشر على منطق الفراغ "الخواء" الذي يعتمد النص في تفسير التاريخ وتطور البشر وعلاقاتهم. فالفكرة بدأت من لا شيء إلى شيء، وتطورت من ايديولوجيا إلى دولة، وتحولت الفكرة من دولة قائمة بالقوة إلى دولة قائمة بالفعل. وبعد أكثر من 50 سنة على النكبة الفلسطينية وسلسلة حروب ومواجهات لا تنتهي أخذت "إسرائيل" تراجع فكرتها وتعيد النظر في مقولات ايديولوجية تأسست كردة فعل على سياسات التفرقة العنصرية - الدينية التي مارستها أوروبا ضد المجموعات اليهودية في القارة.
الآن وبعد مضي تلك العقود الطويلة على تأسيس الفكرة اكتشفت تلك الأجيال اليهودية أن فلسطين هي أرض لشعب وأن شعب فلسطين يطالب بأرضه. وفي هذا السياق يمكن أن نفهم المعنى الذي قصده خالد مشعل تعليقا على خطوة الانسحاب. فالخطوة هزيمة معنوية في أقل التقديرات لفكرة "إسرائيل" التي تأسست على مجموعة أوهام ايديولوجية ونجحت في إنتاج دولة بسبب تحالفها الدائم مع الاستعمار وأعداء العرب والمسلمين في أوروبا والولايات المتحدة.
"إسرائيل" لم تنتصر على العرب كقوة منفردة وانما استفادت كحركة صهيونية في ربط مشروعها بالمشروع الاستعماري المعادي للمسلمين والهادف إلى تقسيمهم وتفكيكهم. وثم استفادت بعد تحول الفكرة إلى دولة من تحالفها مع الغرب الاستعماري "بشقيه الأوروبي والأميركي" لتبرير المشروع وتغطيته سياسيا وتمويله وتسليحه لإضعاف العرب وايقاع الهزائم المتتالية بدولهم. فقوة "إسرائيل" كانت دائما خارج سياق التطور الطبيعي لموازين القوى العسكرية وخارج معدلات النمو الاقتصادي الطبيعي لتطور الشعوب. فالقوة في أساسها مستوردة ومبنية على تحالفات دولية كانت لها مصلحة في تأسيس قواعد انطلاق لزعزعة استقرار المنطقة ومنعها من التقدم والتكيف مع مستجدات العصر. فالتاريخ السياسي لدولة "إسرائيل" نهض منذ البداية على مجموعة سلبيات ونجحت الدولة في توظيف تلك السلبيات "العداء للعرب والمسلمين" لخدمة مشروعها الاستيطاني والتوسعي. والسؤال الذي يمكن طرحه جوابا على وصف محمود عباس "خطوة تاريخية وليست الأخيرة" أو وصف خالد مشعل "بداية نهاية "إسرائيل"": هل انتهت وظيفة "إسرائيل" التاريخية - الجغرافية وبدأ الغرب يتخلى عن دورها السياسي في اضعاف العرب ام ان هناك وظائف جديدة لهذه الدولة تتجاوز حدود فلسطين وتحتاج إلى إعادة إنتاج للدور في أمكنة أخرى؟
احتلال العراق وانتشار القواعد الأميركية في طول العالم الإسلامي وعرضه يعطي فكرة عن الراهن والمستقبل. وما حصل في العقد الأخير وتحديدا بعد حرب الخليج الثانية في العام 1991 يقدم صورة مصغرة عن معنى مشهد الانسحاب من غزة وبداية إعادة إنتاج وظائف "إسرائيل" في عالم أميركي تختلف علاقاته عن تلك التي كانت سائدة في عهد الاستعمار البريطاني - الفرنسي في القرن الماضي
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1076 - الثلثاء 16 أغسطس 2005م الموافق 11 رجب 1426هـ