في منتصف التسعينات، كنت أبادر كل اولئك الذين يتقدمون بطلب العمل كصحافيين بالسؤال التالي: "هل تبحث عن عمل ام انك تريد ان تعمل صحافيا؟".
ثمة فارق، وكل اولئك الذين واجهوا السؤال حاروا في الجواب لانهم لم يتبينوا الفارق. بعضهم كان يتساءل: وهل ثمة فرق؟ وبعضهم الآخر كان يجيب: الاثنين معا. وبعضهم كان يستنكر السؤال ويعتبره نوعا من التطفيش المسبق. واحد فقط أجاب بصراحة تامة: "في الحقيقة اني ابحث عن عمل، فانا خريج فلسفة ومازلت من دون عمل منذ عام ونصف العام... اعتقد ان بامكاني ان اعمل صحافيا".
هذا الصريح، أصبح صحافيا متميزا بعد بدايات متعثرة. كانت قدراته هي جواز مرورة وليست شهادته او ادعاءاته. اليوم يتنقل من وظيفة الى أخرى كمخطط إعلامي. أحد الذين استنكروا السؤال، منذ ان غادر مبنى الصحيفة غاضبا يدير محلا تجاريا صغيرا، لقد غدا رجل أعمال صغير. اولئك الذين لم يجدوا جوابا، لم ارهم منذ ذلك الوقت ولم أسمع انهم عملوا في اية صحيفة.
في حالات أخرى عندما كان طلاب الثانوية العامة أو غيرهم يأتون من أجل التدريب، كنت اقترح على بعضهم ان يذهب للارشيف لاستخراج معلومات عن موضوع ما. لا اتذكر ان احدهم تمكن من تحصيل معلومة مفيدة. وكانوا يعبرون عن شعور بالضيق والتبرم من هذه المهمة مرددين احيانا انهم جاءوا لكي يتدربوا كصحافيين لا موظفي ارشيف. ومن باب الفضول كنت اسألهم: ماهي توقعاتكم للتدريب او العمل كصحافيين؟ الجواب لم يكن يتأخر: نجري مقابلات.
لست متأكدا ما اذا كان هذا قد تغير، لكنا ربما لمسنا جوابا في مكان آخر. في يونيو/ حزيران الماضي، كنت احد المشاركين في "يوم التوجيه الاكاديمي" الذي نظمته جمعية العمل الوطني الديمقراطي في مركز المعارض. جلست على منضدة مخصصة للصحافة وكان يتعين علي ان اجيب على تساؤلات اولياء الامور والطلاب الذين يرغبون في دراسة الصحافة في الجامعات واقدم النصح والمشورة. لكن على مدى يومين لم يقترب من المنضدة سوى طالبتين. الأولى كانت تنوي التسجيل في قسم الاعلام بجامعة البحرين والثانية كانت تسأل من باب الفضول لا غير.
تلك التي تنوي الدراسة بجامعة البحرين سألتني "وهي محقة" سؤالا واحدا: هل العمل في الصحافة مجز؟ وزادت: صديقاتي نصحنني بان اعمل في قسم للعلاقات العامة في وزارة حكومية وابلغنني ان العمل في الصحف متعب والرواتب غير مجزية.
الصحافة مهنة غير جذابة اذا؟ على الارجح نعم. لكن كيف لنا ان نفسر جاذبيتها لاولئك الذين انخرطوا فيها على مدى السنوات الماضية. والاهم من هذا كيف انها لاتزال تشكل اغراء للاستثمار مع ست صحف يومية سنحظى بها بعد حين؟
أثمرت المنافسة بين الصحف على اجتذاب الصحافيين ارتفاعا نسبيا في الاجور بالنسبة للصحافيين من ذوي الخبرة، رؤساء اقسام ومخرجون وصحافيون نشطون. لكن هذا ايضا شمل اولئك الذين مازالت قدراتهم بحاجة للتطوير. وعلى رغم ان ارتفاع الاجور مؤشر ايجابي على الدوام، فانه لن ينفي ازمة بدأ اصحاب المشروعات الصحافية يتلمسونها بعمق. من اين نأتي بالصحافيين؟
بلغة الاقتصاد، يمكن وصف الحال بانها ارتفاع في الطلب ونقص في العرض. وفي ظل حمى البحرنة، سيجد أصحاب المشروعات انفسهم مطالبين "صيغة مخففة لمفردة مجبرين" على القبول بصحافيين لا يملكون خبرة ويحتاجون للتدريب. ومشكلة التدريب ستتفاقم في ظل غياب التقاليد الصحافية ومستوى عال من الاحتراف وسيزيد في تفاقمها ضغط عنصر الوقت. وهذا يعني دوما البدء من الصفر او بعده بقليل. ليس من الواضح ما اذا كان اولئك الذين يطرقون أبواب الصحف يختلفون عن اولئك الذين كنا نصادفهم في التسعينات، لكن امثولة "يوم التوجيه المهني" تقترح علينا جوابا غير سار.
لكن من هو ذاك الذي يطرق الباب؟ هل هم الباحثون عن مجرد عمل ام اولئك الذين تحركهم دوافع غامضة للانخراط في مهنة غير جذابة، غير مجزية، مليئة بالمشاق والضغوط النفسية واجواؤها تفصح عن أسوأ ما في الناس؟
نتساءل اذا عن الدوافع وهذه تتراوح ما بين الاحلام والامنيات البسيطة والاستقرار الوظيفي وصولا الى الطموحات العريضة وحتى الاندفاع المتهور احيانا. لكن "ليست هناك اسرار" مثلما صاح بيتر بروك، فنحن لا ندفع اليوم سوى ثمن غياب التقاليد المهنية التي لم تترسخ طيلة العقود الماضية، وقليلون اولئك الذين يتمثلون صيحة هاملت في أروقة الصحف: نكون أو لا نكون.
صحافة مهنية؟ تقاليد ومستوى احترافي؟ هل تمزح أم أنك تنتمي الى جيل منقرض من غرائب المخلوقات؟
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 1075 - الإثنين 15 أغسطس 2005م الموافق 10 رجب 1426هـ