هل يعنينا في الخليج المخاض المتعسر لولادة الدستور العراقي الجديد الموعود، وترتيب البيت العراقي، أم هو شأن داخلي للعراقيين؟ حقيقة الأمر أننا معنيون به إلى العظم. فالدستور الجديد هو الذي سيرسم تاريخ العراق المقبل، إما إلى يسر أو عسر، وهو دستور يواجه مخاضا عسيرا ولعلنا نلاحظ قضيتين جوهريتين في هذا المخاض، تتفرع منهما بقية القضايا الشائكة:
الأولى هي هوية العراق، وهل هي عربية أم إسلامية، أم كردية، أم هي كل ذلك؟ الاختلاف بين القوى الرئيسية الفاعلة في العراق بشأن هذا الموضوع يدل، على خلاف جوهري بين الفئات الاجتماعية والسياسية التي تقود العراق اليوم، ولم نسمع بعد رأي الفئات الاجتماعية الاحتجاجية الخارجة عن الائتلاف! لعل ذلك يعيدنا إلى تكوين العراق الحديث الذي فرضت عليه هوية شاملة من دون أن يكون لمكوناته الاجتماعية رأي واضح فيها. لذلك أصبح الحديث المشهور الذي نقل عن حوار دار بين المرحومين جمال عبدالناصر وعبدالسلام عارف في الستينات من القرن الماضي، إذ سأل الأول الثاني عن نسبة الشيعة في العراق، فرد الثاني بالقول إنهم يشكلون ثمانية في المئة من سكان الوطن العربي فقط! تقال تلك الطرفة على سبيل الإشارة أن الأنظمة العربية في الكثير من الأوقات تريد أن تكنس المشكلات الحقيقية تحت السجاد، وان فعلت ذلك لن يرى المشكلات احد.
الوجود الكردي السني الشيعي في العراق، وهي الفئات الثلاث الكبرى المكونة للنسيج الاجتماعي العراقي، وهو وجود واقعي. إلا أن نخب العراق دائما في السابق تتناول أحاديث الوطن الواحد، والوحدة العراقية، والأمة، على شاكلة تناول المقبلات قبل الوجبة، أما إذا جاءت الوجبة الحقيقية، فيرتد الجميع إلى الطوائف والمذاهب والقبائل والاعراق، وهو أمر لن يحل من دون التوافق بين جميع الأطراف. أما الملاحظة الثانية والمستدرة من الأولى هي التكوين الإداري السياسي للعراق الجديد، وهل هو فيدرالي أم كونفدرالي؟، وهل الفيدرالية تعني الجسم الكردي في الشمال فقط، ويبقى السنة والشيعة في شريحة جغرافية واحدة موحدة، أم تنقسم تلك الشريحة إلى اثنتين، واحدة في الجنوب وأخرى في الوسط. الحديث الذي أدلى به السيدعبدالعزيز الحكيم في الأسبوع الماضي، والذي طالب بجزء جنوبي "شيعي" في الفيدرالية، لا يحتمل الغموض، وهو يعني أن تكون هناك ثلاث مناطق عراقية تتمتع بحكم ذاتي، كردية، سنية، وشيعية. وهو أمر استفز بعض العراقيين ولكنه يبدو أن القول لم يكن على علاته، بل هو أمر قد يتحقق، من اجل "تقسيم الثروة والسلطة" الشعار الذي قبله قبل ذلك السودانيون واستقروا عليه، والآن جاء دور العراقيين ليقبلوه أيضا.
لعل الخطر الذي يراه البعض في هذا الأمر هو في شكله النهائي "دولة شيعية" في جنوب العراق، وهو خطر تحدث عنه البعض بالقول انه "الهلال الشيعي" المذهبي السياسي، وهو هلال يمتد من طهران لينتهي في جنوب لبنان. في هذا المقام يبدو أن الخاسر هم أهل السنة، لأنهم في بيئة جغرافية تفتقد إلى كل من الماء والنفط في أن واحد، صلب الحياة... أو كثير من الماء وكل النفط، ومن دون ان يكون لديها إطلالة على بعض جيرانها. وهو أمر متوقع بعد آن لعبت السياسة بالديموغرافيا في العراق كثيرا وعميقا.
الكونفدرالية مقبولة من معظم الأكراد، وهي مقبولة أيضا من كثير من الشيعة، استخدمت هنا تعبير "معظم" للأكراد وتعبير "كثير" للشيعة، لان القليل من الأكراد يرفضون الفيدرالية، بل هي مطلب يكاد يكون وطنيا لأكراد العراق منذ زمن طويل، كما أنهم حققوا على الأرض استقلاليتهم منذ خمسة عشر عاما على الأقل. أما استخدام الكثير للإشارة إلى الشيعة، فان بعضهم يرفض هذا النوع من التقسيم، ولكنهم اليوم، أي الرافضين، ليسوا منظمين، كما القابلين بها من الشيعة في القسم الجنوبي من العراق. بل يرى الداعون إلى جنوب عراقي "مستقل" على أنها الفرصة التاريخية لنيل حقوقهم التي هضمت لفترة طويلة من الزمن في عراق الحكم الذي تلى الحرب العالمية الأولى.
من يرفض الاستقلالية للشيعة في الجنوب، بجانب المتضررين السنة، هم الشيعة المستنيرون، أهل المناداة بالوطن لا الغيتو، ولكنهم في الوقت ذاته يقبلونها ويبررونها للأكراد من منظور سياسي قديم له علاقة بنضال الأكراد! لذلك تسقط حجتهم لدى الآخرين عندما يواجهون بسؤال: لماذا تقبلونها للأكراد وترفضونها لنا، ألسنا وطنا واحدا!
وحدة عراقية سياسية جنوبية شبه مستقلة للشيعة في الجنوب العراقي، أولا ستسهل الاختراق الإيراني هناك، وإذا أخذنا بوحدة المذهب، فان الخلط سيتم حتما بين انتفاء الحدود للمذهب الواحد، وانتفاء الحدود للوطن. وإذا اضفنا إلى كل ذلك مركزية "الإسلام" في البنية الدستورية المقترحة، وهو يعني هنا التفسير المذهبي له، يمكن أن نلحظ بعد ذلك احتمال التداخل والتشابك بين إيران وبين جنوب العراق. هذا التوجه يعززه الحديث المعلن عن أن اللغات التي سيعترف بها الدستور العراقي الجديد بجانب اللغتين العربية والكردية، اللغة الفارسية، وتصبح هي احدى لغات الوطن العراقي الجديد.
الموضوعات المطروحة حساسة، بل قد يرى بعضهم أن الخوض فيها من المحرمات، ولكنها، وبناء الدولة الجديدة في العراق يجري على أشده، ستترك ندوبا أعمق بكثير مما تركه أي حكم سابق في العراق، وتؤسس إلى اضطراب جديد. هذه الندوب قد تأخذ العراق إلى ما لا تحمد عقباه، واعني به حقيقة لا مجازا حربا أهلية طويلة وقاسية ومهلكة ليس للعراق والعراقيين فقط، وهذا بحد ذاته عظيم، ولكن أيضا للجوار الجغرافي شديد الحساسية. أفضل سيناريو كان يراد للعراق أن يكون عراقا موحدا، المواطنة فيه تجب أي انتماء آخر، والقانون فيه يسود على الجميع، بصرف النظر عن الزي أو المكانة أو اللغة أو اللهجة التي يتحدث بها، وتوزع فيه خيرات الوطن على الجميع على قاعدة لكل من المواطنين بحسب عملهم واجتهادهم. ذلك كان التصور المثالي، ولكنه تصور "مقبلات" لا الوجبة الحقيقية، الوجبة الحقيقية مخالفة لذلك. أساسها الشك العميق بين فئات المجتمع العراقي المختلفة، والتنافس الأعمى على السلطة، وتنافر الجماعات المكونة للنسيج العراقي، والتي لم يتهيأ لها الاندماج الحقيقي، على رغم كل مقولات بعض المثقفين العراقيين. فالقيادة السياسية اليوم هي قيادة "فئوية" خالصة. همها الأول الاستجابة إلى مطالب حقيقية أو متخيلة لجمهور عريض ترى انه يطالب بالمحاصصة، أكثر مما يطالب بالوطن. وهذا يعني أن القيادات السياسية العراقية مهما حسنت النيات، فشلت في أن تقدم تصورا لوطن عراقي موحد، كما يقول لنا مروجو الإعلانات في بعض محطات التلفاز العربية
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 1075 - الإثنين 15 أغسطس 2005م الموافق 10 رجب 1426هـ