سنقرأ الكثير من التحليلات والتفسيرات للأسباب التي دفعت رئيس الحكومة الإسرائيلي المتطرف ارييل شارون إلى الموافقة على الانسحاب من غزة المحتلة وهدم المستوطنات التي تسيطر على مساحة واسعة من القطاع. وكل تلك القراءات لن تخرج عن سياق المستفيد والمتضرر من الانسحاب.
الرئيس الأميركي جورج بوش، قال: إن الانسحاب هو لمصلحة "إسرائيل" فهي برأيه مستفيدة لأنها على الأقل تخلصت من قطاع يثير الكثير من المشكلات الأمنية والسياسية. الجانب الإسرائيلي منقسم وهو غير متوافق على القرار. فالبعض يؤيد شارون ويرى أن الانسحاب يساعد "إسرائيل" على التخلص من ثقل سكاني سبب الاضطرابات الأمنية الدائمة وزعزع سلوك الدولة السياسي وشوه سمعتها الدولية بسبب تحكم أقلية استيطانية مستوردة من الخارج بغالبية سكانية تبحث عن مكان للإقامة خارج إطار المخيمات.
البعض الآخر من الجانب الإسرائيلي يرفض خطوة شارون. وهذا البعض غير متوافق بدوره على القرار. فهناك من يعتبر أن الخطوة التراجعية هزيمة معنوية للمشروع الصهيوني وتشكك بصحة فكرة "إسرائيل الكبرى" التي تمتد وفق الاسطورة من الفرات إلى النيل. وهناك من يطالب بتعزيز الاستيطان وتوسيع رقعته مطالبا باستخدام القوة لطرد الفلسطينيين من أرضهم وتوطين "مهاجرين يهود" يمكن استجلابهم من العالم.
هذه القراءات الأميركية - الإسرائيلية المتفرقة لقرار الانسحاب من غزة، تعكس في منطقها حالات من الاضطراب السياسي/ النفسي الذي أخذ يتأسس على معادلة لا تتوافق مع مبدأ القوة ودور العنف في صناعة الدول ورسم خريطتها السياسية على الأرض. فالاضطراب في الآراء الصادرة من واشنطن وتل أبيب يشير إلى وجود ضياع في الاتفاق على تفسير موحد للخطوة. فهل الخطوة جيدة أم سيئة وهل هي فعلا لمصلحة "إسرائيل"، كما يقول بوش أم تهدف إلى شراء الوقت والتكيف مع وقائع فرضتها الكثافة السكانية للقطاع؟
التفسيرات كثيرة وهي تتراوح بين المفهوم الايديولوجي للمشروع الصهيوني الذي يدفع دولة الاحتلال نحو المزيد من الحروب والتوسع، وبين المفهوم السياسي للمشروع الإسرائيلي ووصوله إلى حدوده القصوى في التمدد الجغرافي وطرد الناس واستجلاب غيرهم للتوطين في أرضهم. وبين السياسة والايديولوجيا تظهر سلسلة قراءات أخرى من الجانبين العربي والفلسطيني.
الجانب العربي بدوره غير متفق على أسلوب التعامل مع المشروع الصهيوني والاحتلال الإسرائيلي. كذلك الجانب الفلسطيني غير متوافق على السياسة المراد اتباعها مع "إسرائيل" بعد انسحابها الشامل من قطاع غزة.
عربيا، هناك مشروع تسوية طرح منذ العام 1981 وأعيد تنقيحه وتعديله مرارا وبصيغ مختلفة وحتى الآن لاقى الرفض الكلي أو الجزئي من الولايات المتحدة وحليفها الإسرائيلي. فمنذ 1981 وافقت الدول العربية مبدئيا على الاحتلال للأراضي الفلسطينية في العام 1948 مقابل انسحاب "إسرائيل" غير المشروط من الأراضي العربية والفلسطينية التي احتلت في العام .1967 والدول العربية التي طرحت فكرة التسوية على قاعدة احترام القرارات الدولية مقابل السلام الشامل والكامل واجهت الكثير من الضغوط والحروب في لبنان وفلسطين ولم تلق التجاوب المعقول لمبادرتها المشتركة. وأيضا تعرضت الدول العربية إلى حروب دولية كبرى تتوجت أخيرا في احتلال العراق وإسقاط نظامه وتقويض دولته ونشر الفوضى وعدم الاستقرار وتهديد دول الجوار الجغرافي بالمصير نفسه إذا لم توافق على الاحتلال ونتائجه.
وخلال تلك المعارك الإقليمية والدولية تعرض لبنان لاجتياحات واعتداءات متكررة، كذلك واجه الشعب الفلسطيني حالات تفوق الوصف في المكابدة والمجاهدة لصد العدوان اليومي المتأتي من الاحتلال المباشر والاحتكاك الدائم مع المستوطنين والمستوطنات.
بين العام 1981 و2005 ماذا حصل حتى تبدأ تل أبيب بتشجيع من واشنطن التفكير بالانسحاب من غزة؟ كل المؤشرات تدل على ضعف عربي متزايد مقابل نمو قوة "إسرائيل" العسكرية وتنامي دورها الإقليمي بعد احتلال العراق. فماذا حصل حتى تراجع "إسرائيل" سياستها وتأخذ خطوة رفضتها مرارا ومنذ الانسحاب النهائي والأخير من سيناء في العام .1982
من الصعب تقديم جواب مقنع في منطقه السياسي. فالتوازن العسكري لم يتغير وإمكانات "إسرائيل" تحسنت والوضع العربي تراجع عما كان عليه في العام .1981 وهذا يعني أن القوة لاتزال لمصلحة العدوان الإسرائيلي. فما الذي جرى حتى يكسر شارون ذاك التوازن ويعيد النظر بسياسة الاحتلال وعدم التراجع أمام الفلسطينيين.
هنا أيضا نعثر على أجوبة مختلفة. فهناك من يقول إن شارون يريد التخفيف من ثقل غزة السكاني للتفرغ إلى تركيز الاستيطان في الجليل والنقب والضفة ومدينة القدس. وهناك من يرى أن "إسرائيل" تخطط لفتح جبهات عسكرية جديدة ولا تريد أن تتحول غزة إلى منطقة مواجهة يومية تلهي تل أبيب وتعطل عليها تركيز قوتها في مناطق محددة. وهناك من يرى أن خطوة شارون مسايرة للضغوط الأميركية وتقديم تنازل شكلي لبوش مقابل تلك الخدمات التي قدمتها واشنطن في السنوات الأخيرة. وهناك من يربط الانسحاب بقوة الضغط السياسي الذي مارسته الانتفاضة الثانية على أجهزة الاحتلال وأدواته.
التحليلات كثيرة والتفسيرات متشعبة إلا أن منطق الكلام يؤكد أن مبدأ القوة لا يقرر كل شيء. والمثال العراقي هو النموذج الأخير على احتمال فشل سياسة القوة. فالولايات المتحدة فازت عسكريا ولكنها لم تنتصر سياسيا. وبين الفوز والانتصار هناك مساحة زمنية للناس تعطي فرصة لتعديل الموازين العسكرية
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1075 - الإثنين 15 أغسطس 2005م الموافق 10 رجب 1426هـ