العدد 1074 - الأحد 14 أغسطس 2005م الموافق 09 رجب 1426هـ

طهران وواشنطن... سياسة حافة الهاوية

فكتور شلهوب comments [at] alwasatnews.com

منذ ان فتحوا لها ملفها النووي، في نهاية ربيع 2003 - في اعقاب احتلال العراق - وايران تتعاطى مع الموضوع بسياسة حافة الهاوية: تساوم، تتشدد، تدفع بالموقف إلى حرف المهوار، وفي اللحظة المناسبة تتراجع وتسحب العملية من نقطة الخطر، وفي ذلك تكون قد أخذت واعطت، ولو ليس بالتكافؤ. تحتفظ بماء الوجه وفي الوقت نفسه تتجاوب مع المطلوب، في لحظة معينة، وبأقل الخسائر، دبلوماسية البازار، اذا جاز التعبير، وبامتياز واهم ما فيها انها تدرك قوة أوراقها، بقدر ما تدرك حدود هذه القوة. وبين الاثنين تمارس اللعبة بتوازن، بحيث لا تنجر إلى مواجهة أو حصار من ناحية، ولا تنتهي في آخر المطاف إلى تسليم بضاعتها النووية على الطريقة الليبية من ناحية ثانية.

حتى الآن، نجحت هذه السياسة في شراء سنتين ونيف من الوقت، لا بل بدت، في الايام الاخيرة، وكأنها اخذت زمام المبادرة رفضت المقترحات الأوروبية، نزعت اختام الامم المتحدة - وكالة الطاقة عن المعدات في منشآت اصفهان وبدأت عملية تحويل اليورانيوم إلى غاز- الخطوة الأولى لتخصيب اليورانيوم، الضروري للاستخدام المدني كما لتصنيع السلاح النووي - لم تأخذ بالاعتراضات الاميركية ولا بالتهديدات لرفع الملف إلى مجلس الأمن من أجل فرض عقوبات اقتصادية ضدها. وأوحت بأنها سائرة باتجاه خطوة التخصيب.

هل هي ذهبت، بذلك، في سياسة حافة الهاوية إلى ابعد من الحدود التي تحتملها اللعبة وبالتالي دخل مشروعها النووي دائرة الخطر الفعلي، ام ان حسابات اقتحامها الاخير مبنية على ارقام صلبة تسمح لها بالتقدم مسافة معينة على طريق الدخول إلى النادي النووي؟

لعل استعراض موجز لاهم محطات السنتين الماضيتين، في هذا الخصوص، يساعد في تسليط الضوء على المحطة الراهنة من لعبة العض على الاصابع، بين ايران والغرب، بشأن الملف النووي.

في يونيو/ حزيران 2003 بدأت عناصر الازمة تتراكم. وكالة الطاقة اعطت ايران مهلة حتى آخر اكتوبر/ تشرين الأول كي "تضع كل اوراقها النووية على الطاولة". مع ان الوكالة لم تكن لها مآخذ على المشروع الايراني. لكن واشنطن زعمت آنذاك ان طهران تقيم منشآت تخصيب لليورانيوم في مدينتي "أراك" و"نطانز"، وسط البلاد.

حصل جدل في ايران. انقسمت الساحة إلى اثنين: فريق ينادي بالانسحاب من وكالة الطاقة، كما فعلت كوريا الشمالية، ولو أدى ذلك إلى عقوبات. وفريق يحذر وينادي بالتجاوب. بالنهاية رجحت كفة الثاني، فوافقت طهران على بروتوكول اضافي يسمح للوكالة بممارسة تفتيش مفاجئ وبمراقبة مشددة على المنشآت الايرانية النووية.

يومذاك حذرت الوكالة ايران ودعت إلى وجوب تجاوبها "بالكامل".

واوروبا انذرت ايران باعادة النظر بالعلاقات، لو رفضت الاستجابة. وواشنطن هددت بان ايران امام "فرصة اخيرة".

بعد رضوخ ايران - الذي جرى اخراجه بانه تغليب للبراغماتية - وضع الملف على الرف "ترك الامر للتفتيش ودخلت واشنطن مع بداية 2004 في اجواء معركة الرئاسة وانشغالاتها. بقي الأمر على حاله هذه إلى ان برزت قضية المعدات الملوثة باليورانيوم المخصب، التي كشفها التفتيش وزعمت ايران بأن التلوث مصدره من الخارج وجاء مع المعدات المستوردة. لم يشفع بها ذلك فاعطيت مهلة حتى 24/11/ 2004 لاعلان وقف التخصيب. بدأ الاخذ والرد والمساومة في جولات ماراثونية ايرانية - اوروبية. ومع فوز بوش الثاني عادت واشنطن إلى التسخين، في النهاية رضخت ايضا طهران ووافقت على المطلوب. اخرجت موقفها بعبارات "مشرفة" لرضوخها، مثل ان الوقف شمل كل التخصيب "تقريبا" وليس بالكامل، ومثل انها اتخذت هذه الخطوة "طوعا" وبأن الوقف "مؤقت" وغير ملزم قانونا. حفظت خط الرجعة.

كل طرف حاول أن يبدو غير خاسر: ايران تحاشت العقوبات والمواجهة، واشنطن شعرت ان الوقف يلبي مطلبها ويوفر عليها الدخول في معمعة أخرى في حين هي بدأ تتغرق في الرمل العراقي. واوروبا بدت الرابح الأكبر.

لكن الكل كان يدرك انه اشترى وقتا وان الأزمة جرى ترحيلها إلى محطة لاحقة.

مع دخول العام الجاري عاد التسخين إلى الموضوع. اشارات وتهديدات مبطنة بدأت تتواتر من واشنطن، مع التلويح بعمل عسكري اميركي او اسرائيلي ضد ايران. نائب الرئيس ديك تشيني قال في مقابلة متلفزة ان ايران تأتي على رأس قائمة الدولة المشاكسة بل اضاف أن "اسرائيل" قد تقرر المبادرة بضربة عسكرية للمنشآت الايرانية النووية. وتزامن ذلك مع خطاب الرئيس بوش "عن حالة الاتحاد" الذي اوحى - حسب قراءات اميركية - بأن إدارته تنوي اشعال اضطرابات ومغامرات في الشرق الأوسط وغيره.

لكن فجأة يبرز تغيير في خطاب ادارة بوش. الوزيرة رايس، في تصريح لها خلال زيارة لتركيا، في فبراير/ شباط تقول "إن الخيار العسكري غير وارد في الوقت الجاري. حتى رامسفيلد وتشيني أخذا يتحدثان عن "حسنات" الوسائل الدبلوماسية لتجاوز المشكلة مع ايران"!

في مارس/ آذار، وفيما كانت المفاوضات الأوروبية مع الايرانيين تتعثر بشأن تجديد وقف التخصيب، وفيما راح الأوروبيون يهددون طهران باحالة الملف إلى مجلس الأمن، واذا بواشنطن تدخل على الخط لتعرض رزمة الحوافز الاقتصادية على ايران، لو هي تخلت عن مشروعها النووي! بل ذهب الامر إلى حد ان الرئيس بوش اخذ يقول إن "الدبلوماسية قد بدأت للتو مع ايران". ويضيف أن الحديث عن وجود نية اميركية لضرب ايران ليس سوى "فكرة تثير الضحك"! تغيير واضح في اللهجة، لابد انه يعكس تغييرا في الاستراتيجية على الأقل في الأمد المنظور.

على هذه الخلفية انتقلت ايران من التوكيد على مطلب الاعتراف بحقها في التخصيب - بموجب ميثاق وكالة الطاقة - إلى مطلب التسليم لها بالقيام بالتخصيب ولو جزئيا. ومن هنا اخذ التأزيم يسيطر على المفاوضات الأوروبية - الايرانية التي انتهت، قبل ايام، برفض طهران لمقترحات الأوروبيين - التي كانت عبارة عن حزمة من التقديمات والمغريات النووية المدنية والتعاون التكنولوجي والتجاري - واعلان استئنافها لعملية تحويل اليورانيوم إلى غاز، وهي المحطة الأولى التي تسبق تخصيبه.

وكالة الطاقة سارعت إلى الدعوة لتعليق التحويل. لكن ما جاء في الموقفين الأوروبي والاميركي يستوقف لجهة ليونته.

الأول دعا طهران إلى إعادة النظر! الثاني أدان الخطوة الايرانية ورأى فيها "ازدراء" للمجموعة الدولية. الملفت هنا ان عبارات التهديد والانذار غابت عن الردود. ولا حتى التلويح لمجلس الأمن. الأوروبيون "لايرون هناك حاجة للاستعجال في نقل الملف إلى المجلس". الاميركيون يتحدثون عن خيار المجلس بلغة ضبابية. ردود تطرح أسئلة وعلامات استفهام كثيرة، يمكن تلخيصها باثنين: 1- اما ان واشنطن باتت منخرطة في ترجمة سياسة خطيرة على مدى المنطقة، بدأت طلائعها تظهر في العراق، وتستلزم عدم التأزيم مع ايران - وربما تعاونها - ولو ادى ذلك إلى بلع موضوع التخصيب وتركه يمر كأمر واقع، على ان يعاد فتح هذا الملف في مرحلة لاحقة أو اعطاء الضوء الأخضر لـ "إسرائيل" لتتدبر أمره في الوقت المناسب. 2- واما ان الليونة في الرد متعمدة، لاستدراج ايران إلى التمادي في هذا الملف إلى الحد الذي يمهد الاجواء في مجلس الأمن لاصدار قرار بالعقوبات، يكون المدخل والمستند لاحقا لعمل عسكري، قال الرئيس بوش عنه في مقابلة مع التلفزيون الاسرائيلي، إنه غير مستبعد ولو انه الخيار الأخير. ما يجري على الساحة العراقية، وتمييع دور ايران فيه، فضلا عن استبدال التشدد بالتفهم في ساحات اخرى لها علاقة بايران، كل ذلك يرجح الاحتمال الأول، واذا صح ذلك، فالمنطقة قادمة على الدخول في حلقة جهنمية مرعبة.

* كاتب لبناني

العدد 1074 - الأحد 14 أغسطس 2005م الموافق 09 رجب 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً