قالت فراشة صغيرة يوما من الأيام للفيل: أيها الفيل تماسك وحضر نفسك فسأحط عليك بعد قليل، أرجو ألا يرهقك ثقلي فتقع على الأرض، وحطت عليه فعلا، وبعد أن تاقت نفسها للطيران مرة أخرى، حدثته قائلة سأرفع ثقلي عنك فاحفظ توازنك لكي لا تسقط أرضا.
لن أمثل أحدا في موضوعي هذا بالفراشة، ولن أقايسها بما سأتحدث عنه "حاشا لله" كل ما في الأمر أنني استمرأتها مدخلا مريحا للموضوع فحسب. مضحكة قصة هذه الفراشة حقا، ومحزن تفكيرها وتصورها عن نفسها، والأكثر من ذلك حسرة عليها وبؤسا لحالها أنها طارت وهي لاتزال تعتقد أنها حين حطت أرهقت وحين طارت أثرت.
تحدثت في موضوع سابق عن التهميش والمجتمعات المهمشة، ولهذا الموضوع صلة بما سبقه، لأني سأتحدث عن نرجسية المهمشين كجزء من تصورهم لذاتهم، وربما تسألني: إذا كانوا مهمشين، والمهمشون يعانون الإقصاء والاستبعاد والاحتقار، فمن أين لهم هذه النرجسية التي تتحدث عنها الآن؟
وأجيبك إنها نرجسية غير واقعية، لم يصنعها رصيد فعلي من الإنجازات، وليست لها مكاسب حققتها من الصولات والجولات، لكن المجتمعات المهمشة تصنعها عادة في مجالس الأصوات المرتفعة، وبورصة المزايدات الخاوية، وديوانيات النقاشات التنفيسية المفتوحة، إنها صورة تكبر قليلا عما فعله الشعراء فينا حين اقتحم الجيش الإسرائيلي منطقة جنين العام ،2002 لقد كان الشعراء ينفخون ويشجعون ويتحدثون عن قاب قوسين أو أدنى لانهيار الكيان الغاصب، وكنا نقول في أنفسنا: لن يتسع الوقت أمام العدو على هذا الحماس أكثر من بلوغ ساعات الصباح، أليس الصبح بقريب؟ من أشد الأمراض التي تصيب المهمشين فتكا هو انتفاخ الذات وتضخمها، وهي ردة فعل معاكسة للتهميش، ونوع من أنواع الإحساس بالوجود وإرضاء الذات كلما اشتدت عليها الظروف وحاصرتها الضغوط وأزعجها التهميش، إنها عملية تعويضية غاية في الخطورة إن لم تدر وتوجه بعقل وحكمة.
هؤلاء المهمشون المأزومة أفكارهم، المتضخمة ذواتهم لا يستطيعون في غالبية الأحيان أن يأخذوا الزمام ليتقدموا في مشروعات ومضامير ايجابية، بل غالبية مواقفهم تميل إلى السلبية والمقاطعة والصمت، معتقدين بما تصوروه لأنفسهم من حيز وحجم ومكانة، وما اعتقدوه من تأثير بليغ لمواقفهم السلبية، لأنها ستدفع الآخرين للبحث عنهم والتودد إليهم وتلبية رغباتهم ومطالبهم، مع أن غالبية التجارب تفيد أن هذا الدور كارثي وخاسر. ففي مقال تناول انتخابات العام 2000 في أميركا واثر المشاركة الباهتة للمسلمين في زيادة إقصائهم، كتب المدير التنفيذي للمؤسسة المتحدة للدراسات والبحوث أحمد يوسف متسائلا عن سبب تغيب الصوت الإسلامي وبقائه دونما تأثير واستثمار، وما هو السر وراء فقدان هذا الصوت لأية فاعلية واعتبار في أجندة الديمقراطيين أو الجمهوريين؟ لقد كانت حال التهميش السياسي التي عليها العرب والمسلمون في الولايات المتحدة تطرح أكثر من علامة تعجب واستفهام. فاليهود في مجلس الشيوخ - مثلا - لهم عشرة نواب، أي ما يعادل 10 في المئة، ولهم 34 عضوا في مجلس النواب أي 7,5 في المئة، ناهيك عن رئاستهم لدوائر مهمة في وزارات السيادة كالدفاع والخارجية والمالية ومجلس الأمن القومي، في حين أن نسبة وجودهم في المجتمع الأميركي لا تتجاوز 2,5 في المئة من مجموع السكان .
وفي حوادث لبنان الأخيرة التي أعقبت اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري، قرأت حديثا نقلته وكالة الأنباء المركزية للنائب قبلان عيسى الخوري، يعاتب فيه المسيحيين على مقاطعة الانتخابات بقوله: "مر المسيحيون في ظروف معينة، فبعد اتفاق الطائف قاطع المسيحيون الانتخابات في سنة ،1992 فهل يلغي احد نفسه، لقد حاولنا إلغاء أنفسنا كما فعل إخواننا السنة أيام الانتداب الفرنسي. فمن يبقى في الخارج لا احد يسأل عنه".
على عكس هذين النموذجين تماما تتحرك الآن قوى شعبية في الشارع المصري، لتواجه أحزاب المعارضة "الوفد والناصري والتجمع و حركة كفاية" الداعية لمقاطعة الانتخابات، هذه القوى الشعبية ترفض مبدأ السلبية والمقاطعة، وتقترح بديلا ايجابيا وهو المشاركة والتصويت بـ "لا للإصلاحات المزعومة"، وهي خطوة جبارة تنقل رجل الشارع المهمش من السلبية الصامتة إلى ايجابية التعبير عن رأيه وموقفه.
حين يتضخم تصور الإنسان عن نفسه، أو المجتمع عن حجمه ومقدار تأثيره، يندفع في خطوات هوجاء تمنع رأيه من الحضور، وتقصيه في محيطه العام، وتخسره الكثير من المكاسب في المنعطفات الحساسة، فتمر عليه الفرص وقواه معطلة مشلولة لا تحسن الاستفادة منها.
هذا النمط من المجتمعات المهمشة لا يعدم الحجة في تبرير سلبيته، إنها الالتزام بالقيم والمبادئ والصلابة في ذات الله، مضافا لما أشرت إليه وهو القناعات التي يرسخها تعويضا لتهميشه، إن الآخرين هم المحتاجون وسيركضون وراءه كلما قاطع وتعزز وتمنع. هنا يجب الا ننسى أن القيم والمبادئ ليست ضدا لمصالح الإنسان ولا نقيضا لحاجات المجتمع، بل الأصل في تشريعها سعادة الإنسان في الدنيا قبل الآخرة، كما أن الحياة لا تتوقف بل هي ماضية في حراك سريع ودؤوب، لن يتوقف فيها الآخرون بحثا عن رضا هذا وذاك، بل سيجدون البحث عن بدائل يتحالفون معها، إذا استلزمت المعادلات ذلك، وحينها سيبقى المهمشون مهمشين أمد الدهر، من دون أن تغني عنهم نرجسيتهم وتورم ذاتهم عن معادلات الحياة شيئا.
ختاما ربما تكون المقاطعة سلاحا، لكنها ليست سلاحا على كل حال، إنها سلاح المضطر يشهره حين الضرورة فحسب، إذا توافرت الظروف المناسبة لفاعليته واستفادة المجتمع منه.
*رجل دين سعودي
إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"العدد 1073 - السبت 13 أغسطس 2005م الموافق 08 رجب 1426هـ