النزاع النووي بين الغرب وإيران له عدة جوانب: أمنية سياسية، تكنولوجية، السباق على النفوذ في منطقة الشرق الأوسط، حرص الاتحاد الأوروبي على عدم خسارة ماء الوجه، عدم استفحال مشاعر الريبة بين أطراف التحالف الغربي، وجود مصالح اقتصادية لروسيا والهند وكذلك الصين مع إيران، ثم حرص الغرب على أمن "إسرائيل". إذا نفذ الغرب تهديده بنقل الخلاف إلى مجلس الأمن الدولي، وقال الأوروبيون إن المفاوضات مع إيران التي قامت لهدف إقناعها بالتراجع عن طموحاتها النووية وامتلاك القنبلة الذرية، قد باءت بالفشل. وإذا نفذت إيران - من جانبها - تهديدها بعودة تشغيل برنامج تخصيب اليورانيوم في أصفهان، سينتقل الخلاف إلى مستوى أعلى. لكن ليس معنى ذلك وجود موقف موحد للتحالف الغربي تجاه إيران وليس معنى هذا وجود إجماع على فرض عقوبات دولية ضد الجمهورية الإسلامية. ما من شك في أن التصعيد الجديد يعتبر خطوة جديدة في هذا الخلاف في اتجاه التصادم الذي يسعى الفرقاء لمنع وقوعه.
الملفت للانتباه في معرض هذا الخلاف أن واشنطن وأطراف الجانب الأوروبي المفاوض في لندن وباريس وبرلين، لديهم رؤية مشتركة لتحليلاتهم بشأن ما يمكن أن يستوي إليه الوضع الذي دخل دائرة التوتر، وفرض ما يشبه الحرب الباردة بين إيران والغرب. قبل أيام قليلة سبقت موعد الانتخابات العامة في ألمانيا العام 2002 لم يشعر أحد في الغرب أكثر من وزير خارجية ألمانيا يوشكا فيشر مدى الخطر الذي يمكن أن ينجم عن تصعيد الخلاف النووي مع إيران. منذ ذلك الوقت ينتمي فيشر لمجموعة السياسيين الغربيين الذين لا يشكون بأن البرنامج النووي الإيراني معد للاستعمال في أغراض مدنية. بالنسبة لفيشر والذين يشاركونه الرأي ليس هدف إيران بذل كل هذا المجهود وتحدي الغرب فقط لأنها ترغب في توسيع مصادرها من الطاقة الكهربائية. في البداية كانت واشنطن حذرة في اتهام إيران السعي لامتلاك القنبلة الذرية. لكن عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 زادت لهجة واشنطن حدة وفي ضوء المناورات التي قامت بها إيران والمعلومات التي جمعها الموساد الإسرائيلي وحملها رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون معه إلى واشنطن وطلب من بوش التعجيل بضرب المنشآت النووية الإيرانية، مشيرا إلى أنه من حق "إسرائيل" منع إيران من امتلاك القنبلة كما حصل مع العراق حين دمرت طائرات حربية إسرائيلية مفاعل عسيراك في العام .1981 كانت النتيجة أن بوش اقتنع أولا بما سمعه من صديقه شارون وأطلق على إيران اسم الدولة المارقة وأصبح يتعامل مع قيادتها على هذا الأساس.
الأوروبيون خصوصا الذين رفضوا قبول قرار الولايات المتحدة غزو العراق بحجة امتلاكه أسلحة الدمار الشامل، سارعوا إلى حمل الملف الإيراني وعرض التفاوض مع إيران. رأوا فيها فرصة ليستعيد الاتحاد الأوروبي سمعته التي خسرها حين تعرض للانقسام بسبب أزمة العراق حين أيدت بلدان مثل بريطانيا وإسبانيا وإيطاليا والدنمارك حرب العراق ورفضتها ألمانيا وفرنسا. كما عقد الأوروبيون العزم على أن يثبتوا لواشنطن أن هناك بديلا للعمل العسكري، المفاوضات، وأنه بوسع الأوروبيين البرهان على القدرة في التوصل إلى حل بالطرق الدبلوماسية وهذا ما رفضت إدارة بوش العمل به حين قررت تغيير النظام في العراق. وحين حصل أول تقدم في المفاوضات بين إيران والأوروبيين في خريف العام 2003 خيل للأوروبيين أنهم حصلوا على شهادة تأكيد. لكن باريس وبرلين بالذات لم تفكرا أن الأمور ستنقلب رأسا على عقب لاحقا. أمام هذا الوضع أصر الأوروبيون على أن تنضم واشنطن للمفاوضات وقبل كل شيء مباركتها ومنح الجانبين الوقت الكافي. قبلت واشنطن ذلك على مضض وراحت تتابع المفاوضات بنظرة ناقدة من دون أدنى أمل بتحقيق النجاح وفقا لما تريده وهو تراجع إيران عن خططها النووية، وأخذت في حساباتها أن المفاوضات لن تسفر عن شيء. يقول بعض المعلقين إن الصقور في واشنطن لم يكونوا ليرضوا بأية نتيجة للمفاوضات لا تخدم مصالح الولايات المتحدة. لهذا راح شارون يحرض الصقور الأميركيين ويقول إن إيران تستغل وقت المفاوضات لتحضر برنامجها النووي.
لم تعلن واشنطن حتى اليوم موقفا محددا على رغم أن هدفها واضح وهو منع إيران بأية حال من الأحوال امتلاك القنبلة الذرية. وفقا لتحليلات صحافية نشرت هنا تحتاج إيران لمدة عشر سنوات حتى تمتلك القنبلة. بيد واشنطن تهم كثيرة ضد إيران لن تبخل في استخدامها إذا قررت بدء حملة لتغيير النظام أو شن حملة عسكرية على غرار ما جرى في العراق. التحالف الغربي أمام مفترق طريق: يرى بعض الغربيين أنه لا ينبغي الانتظار حتى يجري اكتمال البرنامج النووي، إذا الهدف هو تغيير النظام تمهيدا لمجيء نظام ليبرالي. ويرى البعض الآخر مكمن الخطر من وجهة النظر الأوروبية في حال استجابة طهران لرغبة الأوروبيين في تقديم ضمانات بأن لا يتم استخدام البرنامج النووي لأغراض عسكرية وإنما لأغراض مدنية فقط، سيتعهد الأوروبيون على الدوام بحماية نظام الملالي والارتباط به لمساعدته في تشغيل برنامجه النووي ومكافأته بعقد اتفاقات اقتصادية مع الاتحاد الأوروبي وهكذا كما ترى المعارضة الإيرانية يتم ترسيخ النظام الذي لا يضمن أحد أنه قد يعود عن موقفه بالمستقبل وتظهر الحرب الباردة من جديد. المعادلة واضحة للأميركيين. سياسة خبز السكر معناها الاعتراف بالنظام الإيراني وهذا أمر مستبعد في ظل الرئيس بوش. البديل لسياسة خبز السكر، سياسة السوط ومعناها شن حملة عسكرية على إيران وهذا ما يحذر منه كثير من الاستراتيجيين وهو السيناريو المرعب في اللعبة. لا يستبعد أحد في أوروبا والعالم العربي أن تنفرد "إسرائيل" بهجوم مباغت، لكنها لن تقدم على فعلتها من دون موافقة واشنطن. أكثر ما يخشاه الأوروبيون أن تمضي "إسرائيل" بهجمتها من دون ضوء أخضر من واشنطن متحججة بدوافعها الأمنية.
هل البديل العسكري الأفضل حقا؟ قبل عام نشرت مجلة "ذي اتلانتيك مانثلي" الصادرة في الولايات المتحدة بعض الخيارات ونتائجها بنظر عدد من الخبراء الاستراتيجيين الأميركيين. الخيار الأول توجيه ضربة لأهداف عسكرية داخل إيران مثل مواقع الحرس الثوري"باسدران"ومواقع أخرى عقابا وتحذيرا في آن معا. غير أن المرء يخشى انتقام إيران بضرب "إسرائيل" بصواريخ شهاب المطورة وكذلك استهداف الجنود الأميركيين في العراق. كما سيرتفع سعر النفط وستحرض إيران حزب الله ومنظمات أخرى لضرب أهداف أميركية وإسرائيلية. الخيار الثاني، القيام بضربة عسكرية وقائية ضد منشآت نووية إيرانية وتستغرق مدة العملية خمسة أيام والتحضير لها 90 يوما. تشمل الضربة الوقائية 175 موقعا بينها 20 تحت الأرض و125 منشأة نووية موزعة في أنحاء البلاد. النتيجة ستكون رد إيران بضرب "إسرائيل" والجنود الأميركيين في العراق. كما أن العملية ستعطل البرنامج النووي الإيراني مؤقتا. إيران اليوم ليست العراق العام 1981 لأنها تمتاز بدفاع مضاد قوي في مواجهة غارات جوية. الخيار الثالث، محاولة قلب نظام الحكم كما فعلت الولايات المتحدة في العراق بحيث تنطلق القوات الأميركية من جنوب العراق وتتسلل وحدات خاصة من أفغانستان وأذربيجان. الكلف المادية والبشرية ستكون عالية لكن الولايات المتحدة لن تجد هذه المرة بين الحلفاء من يساندها في حرب جديدة ضد بلد إسلامي من وزن إيران.
هناك خيار آخر جرى بحثه: فرض عقوبات اقتصادية أي عزل إيران اقتصاديا. يرى مستشار الأمن القومي السابق برزيزنسكي صاحب العبارة الشهيرة "وداعا منظمة التحرير" ثم خسر منصبه، أن اهتمام الغرب بإيران يعود فقط بسبب طاقاتها الاقتصادية. لهذا السبب يعارض الأوروبيون بالذات فرض عقوبات اقتصادية على إيران لأنهم سيخسرون. يرى برزيزنسكي أنه في حال فرض حظر على شراء النفط الإيراني فإن ذلك يكفي لشل الاقتصاد الإيراني لأن النفط يشكل عصب الحياة للجمهورية الإسلامية. غير أن مثل هذه الخطوة ستثير غضب كثير من الدول وخصوصا روسيا والصين وكلاهما من البلدان الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي ويتمتعان بحق استخدام الفيتو. إيران تعرف هذا جيدا وهي أيضا لديها سلاح بوسعها استخدامه لجعل حياة الغرب صعبة جدا: نفوذها الذي لم يعد بوسع أحد التقليل من شأنه في البلد المجاور، العراق، الذي يتمركز فيه 149 ألف جندي أميركي وحولهم ملايين الشيعة
العدد 1072 - الجمعة 12 أغسطس 2005م الموافق 07 رجب 1426هـ