لم تتوقف الشكوى في العقدين الماضيين من الخدمات الصحية والتعليم أيضا. وعلى رغم ما شهده قطاع التعليم والصحة في عقد الثمانينات من تطور لجهة توسعة مركز السلمانية الطبي وزيادة عدد الأطباء والمراكز الصحية، فقد تلازم هذا مع شكوى مستمرة من الخدمات نفسها.
الأمر نفسه مع التعليم، الذي شهد تطورا منذ ان ادخلت النظم الجديدة مثل الساعات المعتمدة والتفريع وتأهيل المدرسين. لكن الشكوى ظلت قائمة من "مخرجات التعليم". وامتد الأمر ليشمل التعليم العالي الذي ظل رهنا بمؤسسة وحيدة هي جامعة البحرين.
لكن عندما جاء اوان اجتراح الحلول، جاءت الحلول على نحو آخر وتركزت بشأن فتح ميدان الصحة والتعليم للاستثمار الخاص. على هذا النحو حظينا بمستشفيات خاصة عدة وبجامعات لا نحفظ أسماءها لكثرتها.
بدا الأمر وكأن فتح قطاع الصحة والتعليم للاستثمار الخاص هو الحل. لكن الاستثمار الخاص في كل مجال تحركه الربحية ولا يمكن لأية مؤسسة خاصة في أي قطاع ان تبقى وتستمر دون ان تحقق ربحية تبقيها قائمة على الأقل. على هذا أصبح الفارق بين هذا المستشفى وذاك في الأسعار، اما الكفاءة فهي في المرتبة الثانية. وعلى أية حال فإن المستشفيات الخاصة ليست مستشفيات شعبية، فهي للقادرين على بذل الأموال. الأمر نفسه بالنسبة للجامعات، فمن رسوم تتراوح ما بين 900 إلى 2000 دينار للفصل الدراسي الواحد، فإن هذه الجامعات مقصد القادرين من الناس الذين بإمكانهم تحمل كل هذه النفقات. وهم مثل المرضى في حال المستشفيات يبذلون أموالهم لما يعتقدونه التطبيب الأفضل والتعليم الأفضل.
هل يعني هذا ان مركز السلمانية الطبي وجامعة البحرين للفقراء؟
نظريا هذا صحيح، لكن الاستنتاج ليس صحيحا بالمطلق. في كل من المركز والجامعة كفاءات. هناك كفاءات من الأطباء وكفاءات من اساتذة الجامعة، لكن العلة تبقى دوما في الوجهة والغاية القصوى للمؤسسة نفسها والمقاربة التي تقوم عليها وطريقة الإدارة اليومية أو الاستراتيجية.
الأمر ينطوي على مفارقات أحيانا، والعلاج المتقدم لا يمكن ان تظهر ثماره مع أطباء متجهمين ومليئين بالفظاظة لا يجيدون التعامل مع المرضى أو ممرضات مهملات. وإذا جاء من يرد لنا هذه الملاحظات إلى الطبيعة البشرية، فإن هذا يمكن القبول به في تجمع عشوائي للناس في شارع أو في السوق لكن ليس في مؤسسة صحية.
لكن، هذا وعشرات الملاحظات والشكاوى التي يمكن ان يسوقها المرضى والمترددون على السلمانية، ليست سوى ثمار لخلل أصلي هو المقاربة: ماذا نريد من الخدمات الصحية؟ نقدم العلاج يوما بيوم للمرضى أم نراكم خبرات لتطوير خدماتنا الصحية ونجعلها في متناول الناس؟
اننا نتملس علل المقاربة من مظاهرها الشاخصة امامنا. وعندما نكتشف ان هذه الخدمات التي انطلقت قبل اكثر من 70 عاما لاتزال لا تضع حسابا للبحث العلمي، لا مناص من الاستنتاج بانها خدمات يوم بيوم. هل يلغي هذا وجود كفاءات داخل الجسم الطبي؟ انه لا يلغيه بل ان هذا يؤكد العلة. قيل الكثير في واحد من امهر أطباء البحرين هو المرحوم الدكتور خليفة بوراشد. أحد امهر أطباء وجراحي المخ الذين عرفتهم البحرين. لكن بوراشد لم يحظ في حياته بمركز أبحاث يسجل خبراته مثلا أو يساعده في عمله بابحاث يمكن ان تكشف استنتاجات جديدة بشأن بعض الأمراض المستوطنة في البحرين. ولا زملاؤه المتخصصون في المجال نفسه اليوم وبعضهم لا يقل عنه مهارة مازالوا يؤدون عملهم بالطريقة نفسها مفتقرين إلى البحث العلمي.
أما جامعة البحرين التي جاءت من مخاض طويل تحولت فيه كلية الخليج للتكنولوجيا إلى جامعة كبيرة متعددة الاختصاصات، فتخلو من مركز بحث واحد حتى اليوم. وتبدو غاية التعليم العالي حتى اليوم هي في تخريج الطلاب فحسب. وعندما يتذكر المرء مثلا ان رئيس وفد "إسرائيل" في المفاوضات مع سورية ايتمار رابينوفيتش ليس سوى استاذ جامعي متخصص في الشئون السورية ورئيس مركز أبحاث في جامعة حيفا، يدرك المرء حجم الفارق.
تتبين أوجه المفارقة عندما نعرف ان جامعة البحرين تصدر بعضا من أفضل الدوريات العربية في مجال الأدب والعلوم الإنسانية. لكن فيها ايضا خريجو تخصص لغة عربية ممن يقدمون "الفاعل" على "الفعل" وهم يكتبون خبرا صحافيا.
وبعد ان كانت صحافتنا تتمحور حول صحيفتين يوميتين وبضع مجلات قبل سنوات، نحن موعودون الآن بست صحف يومية. وقبل هذا اصبنا بالدوار ونحن نتابع كما هائلا من المجلات من كل نوع وفي كل تخصص يخطر على البال. نظريا نحن نعيش نهضة صحافية، لكن قليل من هذه الصحف والمجلات يعتمد على خريجي قسم الإعلام بجامعة البحرين. اما مسئولو التوظيف في الصحف فتعتريهم الدهشة عندما يسعون وراء هؤلاء ويفاجأون ان غالبيتهم يفضل العمل في جهاز للعلاقات العامة في وزارة او شركة كبرى. اما قدرتهم على صوغ خبر بشكل سليم فهي موضع شك.
هكذا، فإن السنوات القليلة الماضية حتى اليوم أشعرتنا بتغيير في قطاعات التعليم والصحة وأخيرا في الصحافة. القاسم المشترك هنا هي انها تقوم على المبادرات الخاصة. المستشفيات، الجامعات والآن الصحف... كل هذا يقترح ان لدينا أموالا تنتظر الاستثمار. لكن الشكوى لم تنقطع في قطاعي الصحة والتعليم. وثمة شكاوى تتشكل الآن وتتبلور في قطاع الصحافة مع هذه النهضة في اعداد الصحف. بعد حين سيختبر أصحاب الصحف علة التعليم وعلة غياب التقاليد في الصحافة. والعلة ليست في الأموال ولا الإمكانات، العلة في المقاربات. وسواء تعلق الأمر بالصحة والتعليم أو الصحافة، فالعلة تكمن في سؤال بسيط: ماذا نريد؟
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 1072 - الجمعة 12 أغسطس 2005م الموافق 07 رجب 1426هـ