إن من بين أعظم الأخطار التي تواجه المجتمعات "النامية" ظاهرة عمالة الأطفال. ويرجع السبب الرئيسي في كون عمالة الأطفال من أخطر الظواهر الاجتماعية إلى ذلك الكم الهائل من الانتهاكات التي يتعرض لها الطفل العامل وذلك على جميع المستويات. وإلى جانب أن انخفاض الأجور من أهم السمات المعروفة لعمالة الأطفال والتي تعد أهم أسباب استخدامهم، إذ ان الطفل العامل يحصل على نحو ربع أو ثلث الأجر الذي يحصل عليه العامل الأكبر سنا.
وقبل أن نذهب بعيدا لا بد من الإشارة إلى بعض أبعاد هذه الظاهرة. فعمالة الأطفال تحرمهم من التعليم وتكوين الشخصية في هذه المرحلة من العمر، كما أن عمالة الأطفال في الوقت نفسه تقف شاهدا على وجود ظواهر اجتماعية ذات أخطار أكبر مثل الفقر والحرمان والتفكك الأسري وتفشي المخدرات والإدمان من ناحية، واعتماد الأسرة على أصغر الأطفال سنا من دون اعتبار لمصيرهم أو مستقبلهم من ناحية أخرى. إذ يتعرض الأطفال العاملون لشتى أنواع الأخطار الجسدية والأخلاقية كالتعرض للفساد والانحراف مبكرا.
وفي المنظور الأوسع تقود عمالة الأطفال لنمو الجريمة قبل وبعد بلوغ هؤلاء الأطفال سن الرشد. ولن يقتصر ضرر تلك الظاهرة على البلاد التي تنطلق منها، بل ان الخطر ينتشر فيشمل دولا مجاورة لتلك التي تنتشر فيها ظاهرة عمالة الأطفال تحت مختلف المسوغات والدوافع.
وأشارت دراسة صدرت عن منظمة العمل الدولية في 3 فبراير / شباط 2004 إلى حقيقة مفادها أن العالم سيكسب ما يفوق خمسة تريليونات دولار أميركي، ستعود كلها إلى اقتصادات الدول النامية وتلك التي استقلت بعد العام ،1991 وهي الدول التي توجد بها أعلى نسب لعمالة الأطفال. وقدرت منظمة العمل الدولية كلف التخلص من تلك الظاهرة بـ 760 مليون دولار فقط.
ومع اتساع نطاق الظاهرة فقد بلغ عدد الأطفال العاملين على مستوى العالم أكثر من مئتي مليون طفل! في المرحلة العمرية أقل من 14 عاما، نصيب الهند منهم 100 مليون طفل ويوزع هؤلاء الأطفال بكثافة في الدول النامية في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية بينما تقل نسبيا في أوروبا وأميركا الشمالية وأستراليا واليابان والصين.
فتشير التقديرات العالمية للعام 2002 أن عدد الأطفال العاملين في العالم وصل إلى 325 مليون طفل تتراوح أعمارهم ما بين 14 و15 عاما، 8 ملايين طفل منهم يمارسون الدعارة والصراعات المسلحة، كما يشير التقرير العالمي لعمالة الأطفال للعام 2002 إلى أن السبب في اختفاء الأرقام الحقيقية لعمالة الأطفال في المنطقة العربية يرجع إلى أن الدول العربية لا تعترف بوجود عمالة للأطفال لديها ولا تعلن عن البيانات والاحصاءات الخاصة بهذه القضية، فقد بلغت نسبة عمالة الأطفال في المنطقة العربية "وذلك فقط بحسب المدون في الاحصاءات 15 في المئة من نسبة الأطفال العاملين في العالم ككل!" تليها أميركا اللاتينية 16 في المئة وآسيا 17 في المئة وإفريقيا 23 في المئة.
وقد حذرت منظمة الأمم المتحدة لرعاية الأمومة والطفولة اليونسيف في 17 يونيو / حزيران 2000م من تزايد ظاهرة عمالة الأطفال وسوء استغلالهم في مناطق كثيرة على مستوى العالم، خصوصا في الدول النامية في قارتي آسيا وإفريقيا، مشيرة إلى أن منظمة العمل الدولية لاتزال تقاوم هذه الظاهرة بشدة. وكشف تقرير وزعه المقر الإقليمي لليونسيف في القاهرة يوم 17 يونيو 2000م أنه طبقا لاحصاءات منظمة العمل الدولية، فإن 250 مليون طفل بين سن الخامسة إلى الرابعة عشرة يعملون في الدول النامية بمعدل طفل بين كل أربعة أطفال، وأن نصف هؤلاء الأطفال يعملون طوال اليوم.
وأوضح التقرير أن مشكلة عمالة وتشغيل الأطفال مشكلة عالمية تشكل انتهاكا خطيرا لحقوق الطفل، وأنه على رغم أن أنواع العمل وظروفه تختلف من مكان إلى آخر فإن هناك الكثير من الأطفال يعملون في أوضاع استغلالية خطيرة، ويحرمون من فرص التعليم، ومن التمتع بالنمو السليم. وأرجع التقرير تشغيل الأطفال إلى تفشي الفقر والحرمان من حق التعليم، الأمر الذي يؤدي إلى وقوع الطفل في شرك العمل للمحافظة على البقاء.
وذكر التقرير أن ما يتراوح بين 150 و200 مليون طفل - معظمهم من البنات - يعملون من دون أجر لدى عائلاتهم. ويشكل الأطفال العاملون في آسيا نسبة 60 في المئة، وفي إفريقيا نسبة 32 في المئة، وفي أميركا اللاتينية نسبة 7 في المئة.
وبني التقرير على معلومات ميدانية من دول كالبرازيل وباكستان والسنغال ونيبال والفلبين وأوكرانيا وكينيا وتنـزانيا والكونغو وغيرها. وتقدر منظمة العمل الدولية عدد الأطفال العاملين بحو 245 مليون طفل. أجبرتهم الظروف على التوقف عن اللعب فتخلوا عن طفولتهم سعيا وراء لقمة العيش، مارسوا أعمال الكبار بشروط السوق فتعرضوا للعنف حتى أصبحوا بحق أطفال شقاء وحرمان... فلم يعرفوا شيئا عن طفولتهم المدللة، وتحت ظروف أسرية صعبة تركوا المدارس..انطلقوا نحو ورش إصلاح السيارات والبيع على أرصفة الشوارع والطرقات وعرضوا حياتهم للخطر.
ومع تعدد وجهات النظر والآراء المفسرة للأسباب الكامنة وراء اتساع نطاق الظاهرة إلا أن هناك عددا من المسببات يمكن قراءتها من الواقع بحيث تدفع الطفل للنزول المبكر إلى سوق العمل والتي يكون أولها على الإطلاق "الفقر"!. فقد أوضحت الدراسات أن الفقر هو السبب الرئيسي في انخراط الأطفال في سوق العمل لكسب المال اللازم لزيادة دخل الأسرة كوسيلة للبقاء على قيد الحياة وذلك على رغم أن عمل الأطفال يزيد من "فقر" الأسرة لأنه يحرم الطفل من فرصة تعليم مناسبة قد تخلق له فرصة عمل أفضل في المستقبل، كما أن الفقر يجعل من عمل الطفل سلعة رخيصة الثمن ما يجذب أصحاب العمل لاستخدامهم، الأمر الذي يسبب ارتفاع نسبة البطالة بين الراشدين.
وقد خلق هذا الاتساع في عدد المسببات وراء الظاهرة إلى زيادة أعداد الداخلين فيها وتنوع أشكال عمالتهم ما زاد من أشكال المخاطر التي يتعرضون لها وأساليب الاستغلال والحرمان من ممارسة حقهم في طفولة آمنة ومستقرة...
ومازال الجدل على تعريف موحد لهذه الظاهرة دائرا وخصوصا بين هيئة الأمم المتحدة للطفولة ومنظمة الصحة العالمية، ولهذا سنركز في الصفحات الآتية على تعريف مفهوم العمالة وأسبابها والنتائج التي تعود على الفرد والمجتمع وموقف الأطفال تجاه ظروف عملهم ووضع استراتيجيات وآليات للتقليل من ظاهرة الاستغلال الاقتصادي للأطفال.
تنقسم عمالة الأطفال إلى قسمين الأول سلبي والثاني إيجابي فالسلبي هو العمل الذي يضع أعباء ثقيلة على الطفل، الذي يهدد سلامته وصحته ورفاهيته، أي العمل الذي يستفيد من ضعف الطفل وعدم قدرته على الدفاع عن حقوقه، العمل الذي يستغل عمالة الأطفال كعمالة رخيصة بديلة عن عمل الكبار، العمل الذي يستخدم وجود الأطفال ولا يساهم في تنميتهم، العمل الذي يعوق تعليم الطفل وتدريبه ويغير حياته ومستقبله، والايجابي هو الذي يتضمن جميع الأعمال التطوعية أو حتى المأجورة التي يقوم الطفل بها والمناسبة لعمره وقدراته، ويمكن أن تكون لها آثار إيجابية تنعكس على نموه العقلي والجسمي والذهني، وخصوصا إذا قام به الطفل باستمتاع والحفاظ على حقوقه الأساسية لأن من خلال العمل يتعلم الطفل المسئولية والتعاون والتسامح والتطوع مع الآخرين.
أسباب وتأثيرات عمالة الأطفال: لا بد من النظر في الاعتبار إلى أن عمالة الأطفال ليست بسبب اقتصادي وانما لوجود قضايا ثانوية أخرى منها الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها الطفل، وفي بعض المجتمعات النامية دائما يقولون ان الأطفال الفقراء لهم الحق أن يعملوا لأنهم فقراء علما بأنه لا يوجد أحد يعترف بحق هؤلاء الأطفال بالأجر المناسب للطاقة التي يبذلونها. كذلك أثبتت الدراسات أن هناك علاقة وثيقة بين تخلف المناهج التعليمية وتوجه الطفل للعمل نظرا إلى طبيعة المناهج التعليمية الطاردة، وتدني دخل الأسرة فإن زيادة عدد أفرادها من الأسباب الأساسية لانتشار الظاهرة، كما أن انخفاض المستوى التعليمي للآباء وهذا الانخفاض في مستوى الوعي يقلل من قيمة الحماية لهؤلاء الأطفال العاملين، إلى جانب المستوى الثقافي للأسرة إذ لا توجد معرفة مسبقة لفائدة التعليم نتيجة لعدم توافر الوعي اللازم، إلى جانب النقص بمعرفة قوانين عمالة الأطفال، هذا بالإضافة إلى النظام التعليمي الذي يسبب ترك المدرسة مثل سوء معاملة المعلمين أو الخوف منهم، أو عدم الرغبة بالدراسة، وعدم المقدرة على النجاح في الدراسة بسبب صعوبات التعلم أو ما شابه.
التأثيرات السلبية المدمرة لعمالة الأطفال: توجد أربعة جوانب أساسية يتأثر بها الطفل الذي يستغل اقتصاديا بالعمل الذي يقوم به وهي: التطور والنمو الجسدي: إذ تتأثر صحة الطفل من ناحية التناسق العضوي والقوة، والبصر والسمع وذلك نتيجة الجروح والكدمات الجسدية، نتيجة الوقوع من أماكن مرتفعة، نزف وما إلى أخره من التأثيرات. إذ يتأثر التطور المعرفي للطفل الذي يترك المدرسة ويتوجه للعمل، فقدراته وتطوره العلمي إلى انخفاض في قدراته على القراءة، الكتابة، الحساب، إضافة إلى أن إبداعه يقل، ويتأثر التطور العاطفي عند الطفل العامل فيفقد احترامه لذاته وارتباطه الأسرى وتقبله للآخرين وذلك جراء بعده عن الأسرة ونومه في مكان العمل وتعرضه للعنف من قبل صاحب العمل أو من قبل زملائه، ويتأثر التطور الاجتماعي والأخلاقي للطفل الذي يعمل بما في ذلك الشعور بالانتماء للجماعة والقدرة على التعاون مع الآخرين، القدرة على التمييز بين الصح والخطأ، وكتمان ما يحصل له.
ساعات عمل الأطفال القانونية: تنص القوانين والتشريعات الدولية والمحلية الخاصة بتشغيل الأطفال على منع تشغيل الأطفال أكثر من ست ساعات عمل يوميا للأطفال الذين أعمارهم 15 عاما فأكثر. أما الأطفال الذين تقل أعمارهم عن ذلك فلا يجوز تشغيلهم بأي حال من الأحوال ومع هذا لا يتم التقيد بتلك القوانين في غالبية الأحيان، فما نجده من أطفال على أرصفة الشوارع العامة تقل أعمارهم عن الـ 15 عاما.
الاقتراحات لتقليل عمالة الأطفال: تعريف الأطفال الذين يعملون على مهارات للتعليم، تطوير المهن والتدريب "مع دفع مقابل" من قبل المدارس المهنية، العمل بشكل محلي ودولي لوضع قوانين يمنع فيها الأطفال تحت جيل 18 عاما على العمل مع الحرص على تطبيقه، تشكيل لجنة في كل منطقة تقوم بمتابعة ومراقبة عمالة الأطفال مع إعطاء صلاحيات لهذه اللجان، عمل الدولة والمؤسسات على تنفيذ حقوق الطفل لمنع عمالة الأطفال، التنسيق ما بين المجتمع المحلي والمؤسسات الدولية لتبادل الخبرات لمنع عمالة الأطفال، العمل على التقليل من العوامل التي تدفع الأطفال للعمل وعملية منع عمل الطفل تكون من دون جدوى إذا لم تكن مصاحبة مع عملية التأهيل، البدء بإزاحة الأطفال أصحاب العمل الخطر ثم التدرج لأقل خطورة مع وجود تعويض اقتصادي للأطفال، التأهيل يكون في مواقع العمل، والعائلة والمجتمع من أجل منع الأطفال عن إكمال العمل، إلى جانب العمل على خطة محلية ليكون التعليم "إلزاميا" ومنع التسرب، من خلال توفير تعليم جاذب، والعمل على تضافر الجهود بين مختلف الهيئات الرسمية والأهلية للتعامل مع الظاهرة، التدخل المكثف للمؤسسات الرسمية والجمعيات الأهلية ذات العلاقة ورجال الأعمال في إصلاح الوضع المادي لهؤلاء الأطفال. ان تقاعس الحكومة عن حماية هؤلاء الأطفال من القيام بالعمل في ظل هذه الظروف، يعد نوعا من عدم الالتزام من قبلها بتعهداتها الدولية التى صدقت عليها.
* كاتبة بحرينية
إقرأ أيضا لـ "سكينة العكري"العدد 1071 - الخميس 11 أغسطس 2005م الموافق 06 رجب 1426هـ
ضعف في تطور النمو الجسدي للطفل؛ حيث تتأثر صحته سلباً نتيجة هذه الظاهرة، وذلك من خلال حدوث عدم تناسق في جسم الطفل من الناحية العضوية، بالإضافة إلى حدوث بعض المشاكل في البصر، والسمع، ووجود الجروح والكدمات في الجسم نتيجة العمل الشاق، والتعرض للوقوع من الأماكن المرتفعة في بعض الأحيان، بالإضافة إلى ظهور مشاكل الخنق، والصعوبة الواضحة في التنفس نتيجة التعرض للغازات السامة.