تطرقت في الحلقة الماضية التي نشرت في 5 أغسطس/ آب الجاري إلى سلسلة من الملخصات عما جرى في الثمانينات بالنسبة إلى الحركة الإسلامية الشيعية في البحرين. بعض القراء استفسر عن حوادث لم تذكر، ولم يكن القصد التفصيل في كل شيء، لأن الغاية كانت نقل صورة عامة - ولكنها دقيقة - عن مجريات الأمور آنذاك. كما انني لم أخطط لنشر الحلقات بصورة أسبوعية، ولكن سأحاول الإجابة على استفسار تسلمته من أحد القراء يذكر فيه أن الحركة الشيعية كانت على وئام مع السلطة، وان التأزم في العلاقة كان بسبب الحوادث التي تلت انتصار الثورة الإسلامية في إيران.
بدأ عقد الثمانينات من القرن الماضي بانتصار مزلزل للثورة الإسلامية في إيران بقيادة مرجع ديني لم يكن معروفا بصورة ملموسة لدى الشيعة غير الإيرانيين، فضلا عن بقية المسلمين. لكن الانتصار الذي حققه الإمام الخميني كان فريدا من نوعه، وحال الذهول من انتصار رجل دين بسيط "من الناحية المعيشية" على "ملك الملوك" الشاهنشاه محمد رضا بهلوي كانت بادية على الجميع. وبلا شك، فإن الشيعة - في أي مكان في العالم - كانوا يشعرون بالفخر بأن أحد زعمائهم الدينيين استطاع اسقاط نظام يعتبر من ركائز المنطقة التي تعتمد عليها الولايات المتحدة الأميركية آنذاك.
كذلك فإن حال الانبهار بشخصية الإمام الخميني كانت واضحة، اذ تحول الاتجاه الإسلامي من حركة تقليدية، أو نخبوية، الى حركة جماهيرية كبرى، وكل هذه الجماهير اتجهت إلى الدين والتدين وتركت كل الانتماءات الأخرى، وبدأت فعلا الموجة التي أطلق عليها لاحقا "الصحوة الإسلامية".
شيعة البحرين
في البحرين، فإن الحال الدينية كانت - قبل انتصار الثورة في إيران - تقليدية. فشيعة البحرين لديهم تراثهم الذي يمتد حتى صدر الإسلام، ومدرستهم الفقهية على مدى القرون الثلاثة الماضية تنتمي - في الغالب - الى "المدرسة الإخبارية" التي تعتمد على أحاديث وأخبار الرسول (ص) والأئمة (ع).
أما شيعة العراق وإيران فإن غالبيتهم من أتباع "المدرسة الأصولية" التي تؤمن بامكان اصدار فتاوى فقهية على أساس "الاجتهاد" الذي يعتمد على "أصول" عقلية مستمدة من القرآن والسنة. ولذلك فإن شيعة البحرين كانت لهم شخصيتهم المميزة والمعروفة من قبل الجميع. والتحرك السياسي الذي ظهر لهم بعد الاستقلال كان من خلال الكتلة الدينية في المجلس الوطني.
ولكن الشيعة بصورة عامة - اذا أخذنا في الاعتبار علماء الدين الذين يتحركون سياسيا والذين لا يتحركون في هذا المجال - فإنهم محافظون من الناحية الدينية. فهم مثلا يقيمون صلاة الجمعة "بناء على فتاوى الشيخ يوسف العصفور الذي توفي في 1772م، بينما يشترط الشيعة في خارج البحرين أمورا عدة لإقامة الجمعة، من بينها ان تكون لمن يقود الصلاة "العصا"، بمعنى النفوذ أو السلطة. وهذه القاعدة مستمرة حتى تسعينات القرن الماضي عندما كسرها السيد محمد صادق الصدر (والد السيد مقتدى الصدر) في العراق والسيدمحمد بن السيد محمد حسين فضل الله في لبنان، بعد ان خففا شروطها، وهي ("صلاة الجمعة) تقام في ايران منذ العام 1979 لأن علماء الدين هناك لديهم النفوذ.
أما الفقهاء "الإخباريون" الذين يتبعهم شيعة البحرين "الشيخ يوسف العصفور والشيخ حسين العصفور والشيخ عبدالله الستري وجميعهم توفوا، اما في القرن الثامن عشر أو القرن التاسع عشر الميلادي" فإنهم يخففون شروط اقامة صلاة الجمعة. إن اقامة صلاة الجمعة، مع إحياء الشعائر الدينية الأخرى في البحرين، له دور كبير في تعزيز حال التدين بين الناس.
تدهور العلاقة مع السلطة
نعم، العلاقة بين الحركة الاسلامية الشيعية والسلطة لم تكن سيئة فيما بعد حل المجلس الوطني في العام 1975 وحتى العام 1980 . لكن الكتلة الدينية (الشيعية) كانت في المجلس الوطني وتحركت مع كتلة الشعب (اليساريين والبعثيين والقوميين) وكتلة الوسط (التجار) لمعارضة مشروع قانون أمن الدولة الذي طرحته الحكومة، وتمكنت من إيقافه، ما أدى الى حل المجلس الوطني في نهاية أغسطس 1975 .
ولكن بعد ذلك، في العام ،1976 تم اغتيال عضو الكتلة الدينية، وأمين سر المجلس الوطني المنحل، عبدالله المدني، وحدث شرخ كبير بين الحركة الإسلامية الشيعية والحركات اليسارية التي اتهمتها بعض الجهات بارتكاب جريمة الاغتيال. وهذا تسبب في تقارب بين الحكومة والرموز الدينية الشيعية.
هذا التقارب كان يتخلله بطبيعة الحال رفع المطالب المعتادة، مثل المساواة في الوظائف، منع التمييز في الترقيات والبعثات وغيرها، ومسائل أخرى تتعلق بالتعليم الديني والأوقاف والقضاء الجعفري وإفساح المجال لبث برامج في الإذاعة والتلفزيون أثناء المناسبات التي يحتفل بها الشيعة، والسماح بتأسيس جمعيات ومؤسسات ومدارس أهلية تهتم بالجوانب الاجتماعية والثقافية والدينية، الخ.
غير أن الأوضاع بدأت تأخذ منحى آخر بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران واختلال موازين القوى وقيام مجلس التعاون الخليجي واندلاع الحرب العراقية الايرانية في الربع الأخير من العام .1980 تحركت عدة مجموعات في 1979 و1980 على الساحة نظرا إلى أن الجميع أصبح يهتم بالسياسة ويعتبر نفسه سياسيا اصلاحيا أو ثوريا "على أساس ان ما حدث في إيران يمكن تكراره في أي مكان آخر".
مجموعة من العلماء يقودها كل من الشيخ علي العصفور والشيخ محمد علي العكري تحركت من خلال عقد ندوة جماهيرية كبرى في الديه. الندوة كانت هي الأولى من نوعها، وحدثت بعد فترة وجيزة من انتصار الثورة في ايران. وبعد الندوة، طرحت عريضة بمطالب تتعلق بتوظيف العاطلين ومساعدة المواطنين من الناحية المعيشية واحترام الشريعة الاسلامية، وأعطت الحكومة شهرا واحدا للاستجابة. العريضة لم تحدد ماذا سيحدث بعد ذلك الشهر، ولكن كان هناك حديث بأن بعض المحركين سعى إلى استصدار فتوى لتحريك الشارع ولكنه لم يوفق لذلك.
الشيخ جمال العصفور "ابن الشيخ علي العصفور" سعى إلى تأسيس حركة سرية، قيل ان اسمها "حركة الشهداء"، ولكن أجهزة الأمن ألقت القبض على أفرادها وقضى الشيخ جمال حتفه تحت التعذيب لاحقا.
حركة أخرى من الشباب تأسست من الناشطين في المواكب الحسينية باسم "حركة الخلايا الثورية"، وأيضا ألقي القبض عليها.
علماء الدين تحركوا في ابريل/ نيسان 1980 لاعلان الحداد على استشهاد السيدمحمد باقر الصدر في العراق وحدثت بسبب ذلك أول مواجهات من نوعها في تلك الفترة، وتم اعتقال أعداد كبيرة من الشباب، وقتل أحدهم "جميل العلي" تحت التعذيب.
خلال السنتين الأولى من انتصار الثورة في ايران، قتل أربعة اشخاص تحت التعذيب، وهم جميل العلي، كريم الخوخي، محمد حسن مدن والشيخ جمال العصفور.
السيدهادي المدرسي بدأ يتحرك جماهيريا في هذه الفترة ما أدى إلى الاصطدام بين اتباعه وقوات الأمن. وقامت الحكومة بإغلاق الصندوق الحسيني الاجتماعي الذي كان يتخذ من حسينية القصاب مقرا له، واعتقلت عددا من أفراده. كما تم سحب الجنسية البحرينية التي منحت للسيدهادي المدرسي (قرابة العام 1974) وتم اخراجه الى الامارات العربية المتحدة. ومن هناك انتقل المدرسي الى طهران وتم تخصيص وقت له في إذاعة طهران لبث المحاضرات، وهذه كانت محفزا كبيرا لأنصاره في البحرين.
حزب الدعوة الاسلامية (فرع البحرين) كان يتوسع سرا أيضا، ولكنه اصطدم بخلاف فكري داخلي، بين من يدعو الى الالتزام بخط الدعوة وبين من يدعو الى الالتحاق بخط الإمام الخميني، واستمر هذا الخلاف الفكرى الى ان تم حل الحزب في العام .1984 في الوقت ذاته، أعلن انصار السيدهادي المدرسي استنفارهم بعد الهجمة الأمنية عليهم، وأعلنوا اسم تنظيمهم لأول مرة "الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين". التنظيم اتخذ قرارا بأن يهاجر أكبر عدد من أعضائه، وفعلا اختفت اعداد غير قليلة منهم من البحرين. الحكومة قالت لاحقا انهم كانوا يستعدون للثورة، والوضع الأمني كان يتأزم بصورة متصاعدة.
تم تأسيس مجلس التعاون الخليجي كإطار استراتيجي للدول الخليجية على ضوء المتغيرات الاقليمية، وبدأت الاتفاقات الأمنية تعمل على جمع المعلومات، وأصبح حينها كل شاب شيعي متهما حتى تثبت براءته.
في ديسمبر / كانون الأول 1981 أعلنت الحكومة أنها اكتشفت شبكة تخطط لقلب نظام الحكم، وبدأت مرحلة جدية في تاريخ البحرين اتسمت بازدياد القبضة الأمنية وارتفاع درجة التوتر السياسي الى أعلى درجة تشهدها البحرين منذ استقلالها، فقد اعتقلت أجهزة الأمن أعدادا غير قليلة من الشباب، ولاحقا اتهمت 73 منهم بالتخطيط لقلب نظام الحكم، واتهمت ايران بالوقوف خلف المخطط، وهو ما نفته ايران حينها.
سنوات الثمانينات كانت سنوات شديدة ومؤلمة، وهي مرت ولكنها قبل أن تختفي اختفت معها كثير من الأمور. فسنوات الثمانينات شهدت ازدياد الطائفية وشهدت التوتر وشهدت الكثير من الحوادث التي تحتاج الى تفصيل آخر.
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"
العدد 1071 - الخميس 11 أغسطس 2005م الموافق 06 رجب 1426هـ