كانت طعنة قوية في ظهر رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو بيرلسكوني تلك التي نفذها الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش بتاريخ السابع عشر من فبراير/ شباط العام 2003. من دون تحسب لردود الفعل ومن دون الأخذ في الاعتبار أن مكان تنفيذ العملية مدينة ميلانو مسقط رأس بيرلسكوني وقاعدته الانتخابية الرئيسية، إذ قامت وحدة خاصة تابعة إلى المخابرات الأميركية (سي آي إيه) بخطف رجل عربي مسلم مقيم في إيطاليا بعد أن تنكر أفرادها بلباس الشرطة الإيطالية وقاموا باعتراض طريق حسن مصطفى أسامة نصر وخدروه ثم دفعوا بهذا المواطن المصري في شاحنة لنقل البضائع ونقلوه إلى مطار قريب إذ قامت طائرة خطف العرب التي تستخدمها السي آي إيه منذ وقت في خطف المشتبه فيهم من عواصم ومدن أوروبية وتنقلهم إلى جهات مجهولة. لم يعد سراً أن الولايات المتحدة أصبحت في إطار ما يسمى الحرب المناهضة للإرهاب تخرق حتى قوانين الدول الحليفة لها. وكان بيرلسكوني ومازال أبرز حليف لبوش في أوروبا بعد رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير. ما تبع عملية خطف حسن مصطفى نصر كان تهديد الشهود وعمليات تزوير وثائق في إطار ما تفرضه الصداقة بين إدارة بوش وسلطة بيرلسكوني.
مازالت هناك أسئلة تحتاج إلى إجابات عن هذه العملية التي انتهت بتسليم المخطوف المعروف أيضاً باسم أبوعمر إلى السلطات المصرية. كان أبوعمر وفقاً لتقارير صحافية إيطالية يخضع لمراقبة دائمة من قبل البوليس السري الإيطالي الذي يعتقد أنه زار أفغانستان في الماضي. وكانت السلطات الإيطالية تنتظر فرصة سانحة للقبض عليه والزج بهذا الإمام في السجن. لكن السي آي إيه لم تحتمل الانتظار فترة أطول فسعت بنفسها إلى خطفه. من أين حصل أفراد وحدة السي آيه إيه على لباس 13 من الشرطة الإيطالية؟ وكيف سمحت الولايات المتحدة لنفسها خرق حرمة إيطاليا بخطف أحد المقيمين فيها بصورة مخالفة لحقوق الإنسان والقانون الدولي؟ هل هذا هو مفهوم الصداقة بين الحكومات والدول التي تريد نشر الحريات وتدعو إلى صون حقوق الإنسان؟
حتى إعداد هذا التقرير تسنى لأبي عمر الحديث مرة واحدة منذ اختطافه مع أسرته وذكر أنه تعرض للتعذيب بالضربات الكهربائية لإجباره على الاعتراف بأنه متعاطف مع الإرهابيين. كان هذا آخر اتصال أجراه أبوعمر مع أسرته الموجودة في ميلانو. وقد وصفت المدعي العام في ميلانو هذه العملية بأنها اعتداء صارخ على سيادة الجمهورية الإيطالية وأصدرت 13 مذكرة إيقاف بحق أعضاء وحدة السي آي إيه الذين حصلوا على مكافأة بقضاء عدة أيام في منتجعات سياحية في فلورنسا والبندقية وجبال الألب الإيطالية. لكن هذه بالتأكيد آخر مرة قضى هؤلاء عطلة استجمام قصيرة في أوروبا القديمة على حد تعبير وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد، إذ وزع يوروبول (البوليس الأوروبي) صور أعضاء وحدة السي آي إيه على نقاط العبور الأوروبية بهدف إيقافهم للتحقيق معهم.
سيكون الأمر أشد صعوبة لو تم الكشف عن وجود دور للسلطات الإيطالية الرسمية في عملية خطف أبوعمر ونقله سراً إلى مصر إذ اختفى أثره. يسود صمت غير معهود في إيطاليا بعد الكشف عن ملابسات اختفاء الإمام المصري. وحين بدأ بيرلسكوني يشعر بضغط من وسائل الإعلام المحلية أوعز إلى وزير البرلمان في حكومته كي يصرح بأن كل شيء حصل من دون معرفة الحكومة الإيطالية وكي يرفع رئيس الوزراء الإيطالي عن نفسه كل مسئولية ذكر وزيره أن الحكومة الإيطالية لم تمنح الجهات الأميركية أي إذن للقيام بمثل هذه العملية. وتم استدعاء السفير الأميركي ميل سيمبلر لمقر وزارة الخارجية في روما إذ تسلم رسالة احتجاج شديدة اللهجة.
ما لا يحتاج إليه الرئيس الأميركي في مثل هذه الأوقات هو قيام خلاف مع أحد أبرز الذين ساندوا سياسته في أفغانستان والعراق. ويرى المراقبون في أوروبا أن الغضب الإيطالي قد يكون بداية انتفاضة القضاء الأوروبي ضد ما يسمى سياسة مكافحة الإرهاب التي تمارسها الولايات المتحدة. مع صدور مذكرة إيقاف جماعية ضد 13 من عملاء السي آي إيه في إيطاليا ذكر في ميونيخ أن المدعي العام في ولاية بافاريا يدرس حالياً ملف رب عائلة ألماني من أصل لبناني يدعى خالد المصري خطفته السي آي إيه في نهاية العام 2003 إلى أفغانستان ثم تم الإفراج عنه بعد أشهر. كذلك في السويد وكندا يدرس أعضاء في البرلمانات ثلاث قضايا مشابهة ولا يستبعد المراقبون أن يتم إصدار مذكرات إيقاف ضد عملاء تابعين إلى السي آيه إيه وهكذا يتم تسجيل سابقة في تاريخ العلاقات بين الولايات المتحدة وحلفائها في كندا وأوروبا. ولأن عدد عمليات الخطف المشابهة التي قامت بها السي آي إيه بلغت مئة على الأقل منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول العام 2001 لم يعد بوسع السلطات الأوروبية السكوت على ما يجري في أراضيها وخصوصاً أن منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان أصبحت أعينها مفتوحة على ما يجري كما بدأ البعض يشك في تعاون بعض الحكومات الأوروبية. ما لا شك فيه أن بعض الحكومات العربية تتعاون مع السي آي إيه إذ تتسلم منها المخطوفين ليجري استجوابهم تحت التعذيب إذا تطلب الأمر إبعاد السلطات الأميركية تهمة تعذيب المتهمين عن نفسها. المضحك المبكي أن واشنطن تطالب هذه البلدان العربية بتحقيق إصلاحات وإطلاق الحريات وتحقيق الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان. في الغضون تتحدث وسائل الإعلام الأوروبية بصورة عادية عما تسميه خطوط السي آي إيه الجوية مشيرة إلى الطائرات التي تحط من دون سابق إنذار في مختلف مطارات العالم وتقل على متنها وحدات الخطف التي تلاحق المطلوبين للسلطات الأميركية وخطفهم. في الغضون تنتقد وسائل الإعلام الأميركية عمليات خطف العرب التي تقوم بها السي آي إيه ووصفتها بأنها أسوأ خرق لحقوق الإنسان. مثل هذه الانتقادات داخل الولايات المتحدة لا تسر الرئيس بوش، إذ يكفيه أن معتقل غوانتنامو أصبح رمزاً للدوس على حقوق الإنسان. ويرى عضو مجلس الشيوخ في الحزب الديمقراطي المعارض في الولايات المتحدة، إدوارد كنيدي أن الإدارة الأميركية تتسبب في خسارة الولايات المتحدة صدقيتها وحقها في مطالبة دول أخرى باحترام حقوق الإنسان. وبينما يدافع اليمينيون في الولايات المتحدة عما يجري في غوانتنامو يزيد الحرج عند الكثير من الأميركيين الذين أصبحوا يرون أن ما يحصل في غوانتنامو مخالف لحقوق الإنسان. لكن الرئيس بوش دافع عن عمليات إرهاب المواطنين العرب في أوروبا وكندا وقال: «إن الولايات المتحدة لا تسلم أحداً إلى بلدان تمارس التعذيب في السجون».
لا يتوقع المدعون العامون في ميلانو وميونيخ وستوكهولم أي مساعدة من الحكومة الأميركية. وقال عميل السي آي إيه السابق مايكل شوير أنه حتى لو قررت الإدارة الأميركية تسليم أعضاء الوحدة الخاصة التابعة إلى السي آي إيه لاستجوابهم ومحاكمتهم في أوروبا فإن المسئولين عن عمليات خطف العرب يشغلون مناصب رفيعة في السي آي إيه وفي البيت الأبيض. هذا ما كشفت عنه قضية خالد المصري تاجر السيارات المقيم في مدينة أولم البافارية وكان يزور المركز الإسلامي في المدينة. منذ الشهر الماضي تطالب السلطات المختصة في ولاية بافاريا واشنطن بمعلومات تفصيلية عما عايشه خالد. تريد السلطات الألمانية معرفة سبب وضع اسم خالد على قائمة المطلوبين للولايات المتحدة علماً بأن السلطات الأمنية الألمانية نفسها لم تشك فيه. كما يريد الألمان معرفة سبب نقله إلى أفغانستان وسجنه من دون الحصول على محام. وكان وزير الداخلية الألماني أوتو شيلي طلب من مدير السي آي إيه بورتر جوس عدم تكرار مثل هذه العمليات التي تؤدي إلى نتائج سياسية سلبية على إدارة بوش. وفي حال فوز المحافظين الألمان بزعامة أنجيلا ميركل بالانتخابات في سبتمبر/ أيلول ليس من المنتظر أن تصر برلين على الكشف عن جوانب قضية اختطاف خالد لأن ميركل ستكون حريصة جداً على إصلاح التوتر الذي نشأ بين حكومة شرودر وإدارة بوش بصورة خاصة بسبب حرب العراق. لكن إذا أصر المدعي العام في ميونيخ على رأيه فقد تنشأ سابقة في تاريخ العلاقات الألمانية الأميركية. وكما جرى في إيطاليا قد تصدر مذكرة إيقاف بحق عملاء في السي آي إيه في ألمانيا أيضاً. بعد نشر قصة خطف خالد المصري التي عرض فيها معاناته وكيف عاش طيلة أشهر في خوف دائم قالت مراجع أميركية إنه اعتقل خطأ لأن اسمه مطابق لاسم أحد المطلوبين الذي كان على صلة بأعضاء خلية هامبورغ الذين شاركوا في تخطيط وتنفيذ هجوم الحادي عشر من سبتمبر 2001. كما في حال خطف أبوعمر في ميلانو وحالات أخرى في السويد وكندا فإن قضية خالد المصري توضح بما لا داعي للشك أن السي آي إيه وراء عملية الخطف. في الغضون نشرت قصة خالد في الولايات المتحدة أيضاً وأصبح خالد وهو أب لأربعة أطفال نجماً إعلامياً في الولايات المتحدة وهذا كفيل بأن يزعج الرئيس بوش. حتى اليوم ترفض الولايات المتحدة الاعتذار إلى خالد المصري وأبلغ وزير الداخلية الألماني جوس أن السي آي إيه ليست مستعدة لتنفيذ هذه الرغبة. هذا ليس في صالح واشنطن، ففي الغضون ينشط أعضاء في البرلمان الأوروبي للتدخل من أجل وقف عمليات خطف العرب في أوروبا ويعتزم مانفرد جندجيديش محامي خالد رفع دعوى ضد السي آي إيه أمام محكمة أميركية. الرأي العام الإيطالي حاقد على سلوك الولايات المتحدة، وخصوصاً أنه لم ينسَ بعد كيف قام جنود أميركيون بقتل عميل المخابرات الإيطالية نيكولا كاليباري أمام حاجز قريب من مطار بغداد وكان يقل الصحافية جوليانا سجرينا بعد الإفراج عنها. الأمور زادت سوءاً بالنسبة إلى رئيس الوزراء الإيطالي بيرلسكوني. وبعد يومين فقط على تصريح وزير البرلمان الإيطالي بأن الحكومة الإيطالية ليست لها يد في عملية خطف الإمام أبوعمر، سربت السي آي إيه معلومات للصحف الأميركية جاء فيها أن العملية تمت بالتنسيق مع المخابرات الإيطالية وأن حكومة بيرلسكوني كانت على علم بها منذ اللحظة الأولى
العدد 1069 - الثلثاء 09 أغسطس 2005م الموافق 04 رجب 1426هـ