من ضمن الإجراءات القانونية الجديدة التي قررتها حكومة طوني بلير التخلص من كل جهة لا تحترم قوانين بريطانيا وتدعو إلى العنف وتشجع الإرهاب. وفي ضوء هذه الخطوة وضعت قائمة بأسماء غير المرغوب فيهم. وتضم القائمة أسماء كانت معرض شكوى وتذمر من المسلمين البريطانيين بسبب إقدامها في السنوات الماضية على إطلاق تصريحات تحرض على الكراهية وتقوض أسس العلاقات السلمية في الدولة.
الآن قررت حكومة بلير التخلص من بعض تلك الأسماء التي انكشفت إعلاميا وبدأت تفكر بمحاكمة كل المخالفين للقانون وترحيل كل من تثبت عليه التهمة. وجاءت الخطوة بعد تفجيرات الأنفاق في لندن ونشر مقالات ومعلومات في الصحف عن دور ما أو شبهة تربط بين تلك الأفعال وتصريحات أطلقها بعض من تفكر الحكومة بترحيلهم عن البلاد.
الخطوة جاءت متأخرة وخصوصا أن الكثير من الهيئات المسلمة طالبت مرارا الجهات المعنية بتوضيح سبب تغطية مثل هذه الجماعات على رغم مخالفتها الصريحة والعلنية للقانون. وكان جواب الحكومات البريطانية المتعاقبة هو أن هؤلاء لا يخالفون القانون لأن الكلام لا يحاسب عليه بل الفعل. وإذا اكتفى هؤلاء بالكلام "التحريضي" ولم يطبقوه فعلا فإن القانون لا يسمح بمحاسبتهم.
وتحت هذه الذريعة عانى المسلمون البريطانيون الويلات والعزلة السياسية والاجتماعية بسبب إصرار الإعلام على إبراز تلك الأسماء ونفخها وتلميعها وكأنها هي الممثل الشرعي والوحيد للخطاب الإسلامي في أوروبا.
استمرت الذريعة أكثر من عقدين واستمرت تلك الأسماء منذ ثمانينات القرن الماضي بالصعود في سماء بريطانيا وأوروبا بصفتها الوكيل الحصري للمسلمين. وهذا الإصرار على إبراز تلك الأسماء وتلميعها إعلاميا زرع الشكوك في أوساط المسلمين ورفع من نسبة المخاوف وعزز نظرية "المؤامرة". فمعظم الجاليات شعرت بالخوف من وجود شبكة تريد إظهار صورة المسلم السلبي المشاغب المخالف للأعراف والقوانين. وأحست الجاليات أن ذاك الإصرار على هذا النوع من السياسة الإعلامية ضد المسلمين يؤكد وجود خطة طاردة للمسلم الجيد من صورة الإعلام.
فكرة التواطؤ انتشرت بقوة في وسط الجاليات المسلمة وباتت متخوفة من وجود "مؤامرة" مدبرة تريد تشويه سمعة المسلمين والنيل منهم حين تأتي الفرصة المناسبة.
صورة المسلم السلبي الكريه العنيف المتعطش للدماء والقتل والكاره للحرية والإنسانية والتعايش أسهم الإعلام الغربي عن قصد أو من دون وعي على رسمها وإبرازها كشكل وحيد لا بديل عنه أو رديف له.
منذ الثمانينات بدأ الإعلام الغربي برسم هذه الصورة بناء على تجارب سابقة وتعريفات وضعها المستشرقون في كتاباتهم. وأخذت تلك الصورة تتطور وتتبلور وتترسخ في العقل الجمعي الأوروبي "والبريطاني أيضا" من خلال المتابعة الدقيقة للحوادث السياسية التي اندلعت في إطار العالم الإسلامي من أفغانستان وإيران والعراق إلى الصومال واليمن والسودان وفلسطين ولبنان.
ونجح الإعلام الغربي في توظيف كل تلك الحوادث السياسية في ترسيم صورة المسلم العنيف الذي يرفض المساومة ويصر على رأيه مستخدما القوة للوصول إلى هدفه. ومن خلال ذاك التوظيف تم ربط صورة المسلم في الخارج بالمسلمين في أوروبا باستخدام بعض الأسماء التي لم تتردد في الظهور الإعلامي وتكرار ذاك الكلام الذي يؤكد عمليا صحة تلك المشاهد المصورة في الخارج.
لعب الإعلام الغربي دوره في إنتاج صورة المسلم السلبي "العنيف والكريه" من خلال إصراره شبه اليومي على تكرار تلك الصور وإبراز تلك الأسماء وتلميعها في وسط الجاليات المسلمة في أوروبا وبريطانيا. فهؤلاء الذين قررت حكومة بلير ترحيلهم هم في غالبيتهم من إنتاج الإعلام الرسمي والخاص. والجاليات لا تعرفهم إلا من خلال الصحف والمرئيات ومحطات الإرسال وأيضا لا تعترف بعلومهم الشرعية وغير الشرعية ولا تدين لهم بالولاء، بل إن معظم المسلمين يخافونهم ويخشونهم... ويرجحون وجود شبهات تحيط بتلك الهالة التي رسمها الإعلام حولهم.
المسلمون في أوروبا "وبريطانيا أخيرا" يدفعون ثمن صورة سلبية عنهم أسهم الإعلام في إنتاجها خلال فترة امتدت على عقدين نتيجة إصراره على استبعاد عقلاء المسلمين وتهميشهم من شاشات التلفزة والصحافة واصطناع قيادات لم يسمع بها أحد من قبل وفرضها بقوة الإعلام عليهم لتأكيد تلك الصورة السلبية. وكان ما كان.
أوروبا تتحرك لوقف خطف مواطنيها العرب
برلين - سمير عواد
كانت طعنة قوية في ظهر رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو بيرلسكوني تلك التي نفذها الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش بتاريخ السابع عشر من فبراير/شباط العام .2003 من دون تحسب لردود الفعل ومن دون الأخذ في الاعتبار أن مكان تنفيذ العملية مدينة ميلانو مسقط رأس بيرلسكوني وقاعدته الانتخابية الرئيسية، إذا قامت وحدة خاصة تابعة إلى المخابرات الأميركية "سي آي إيه" بخطف رجل عربي مسلم مقيم في إيطاليا بعد أن تنكر أفرادها بلباس الشرطة الإيطالية وقاموا باعتراض طريق حسن مصطفى أسامة نصر وخدروه ثم دفعوا بهذا المواطن المصري في شاحنة لنقل البضائع ونقلوه إلى مطار قريب إذ قامت طائرة خطف العرب التي تستخدمها السي آي إيه منذ وقت في خطف المشتبه فيهم من عواصم ومدن أوروبية وتنقلهم إلى جهات مجهولة. لم يعد سرا أن الولايات المتحدة أصبحت في إطار ما يسمى الحرب المناهضة للإرهاب تخرق حتى قوانين الدول الحليفة لها. وكان بيرلسكوني ومازال أبرز حليف لبوش في أوروبا بعد رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير. ما تبع عملية خطف حسن مصطفى أسامة نصر كان تهديد الشهود وعمليات تزوير وثائق في إطار ما تفرضه الصداقة بين إدارة بوش وسلطة بيرلسكوني.
مازالت هناك أسئلة تحتاج إلى اجابات عن هذه العملية التي انتهت بتسليم المخطوف المعروف أيضا باسم أبوعمر إلى السلطات المصرية. كان أبوعمر وفقا لتقارير صحافية إيطالية يخضع لمراقبة دائمة من قبل البوليس السري الإيطالي الذي يعتقد أنه زار أفغانستان في الماضي. وكانت السلطات الإيطالية تنتظر فرصة سانحة للقبض عليه والزج بهذا الإمام في السجن. لكن السي آي إيه لم تحتمل الانتظار فترة أطول فسعت بنفسها إلى خطفه. من أين حصل أفراد وحدة السي آي إيه على لباس 13 من الشرطة الإيطالية؟ وكيف سمحت الولايات المتحدة لنفسها خرق حرمة إيطاليا بخطف أحد المقيمين فيها بصورة مخالفة لحقوق الإنسان والقانون الدولي؟ هل هذا هو مفهوم الصداقة بين الحكومات والدول التي تريد نشر الحريات وتدعو إلى صون حقوق الإنسان؟
حتى إعداد هذا التقرير تسنى لأبي عمر الحديث مرة واحدة منذ اختطافه مع أسرته وذكر أنه تعرض للتعذيب بالضربات الكهربائية لإجباره على الاعتراف بأنه متعاطف مع الإرهابيين. كان هذا آخر اتصال أجراه أبوعمر مع أسرته الموجودة في ميلانو. وقد وصفت المدعي العام في ميلانو هذه العملية بأنها اعتداء صارخ على سيادة الجمهورية الإيطالية وأصدرت 13 مذكرة إيقاف بحق أعضاء وحدة السي آي إيه الذين حصلوا على مكافأة بقضاء عدة أيام في منتجعات سياحية في فلورنسا والبندقية وجبال الألب الإيطالية. لكن هذه بالتأكيد آخر مرة قضى هؤلاء عطلة استجمام قصيرة في أوروبا القديمة على حد تعبير وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد، إذ وزع يوروبول "البوليس الأوروبي" صور أعضاء وحدة السي آي إيه على نقاط العبور الأوروبية بهدف إيقافهم للتحقيق معهم.
سيكون الأمر أشد صعوبة لو تم الكشف عن وجود دور للسلطات الإيطالية الرسمية في عملية خطف أبوعمر ونقله سرا إلى مصر إذ اختفى أثره. يسود صمت غير معهود في إيطاليا بعد الكشف عن ملابسات اختفاء الإمام المصري. وحين بدأ بيرلسكوني يشعر بضغط من وسائل الإعلام المحلية أوعز إلى وزير البرلمان في حكومته كي يصرح بأن كل شيء حصل من دون معرفة الحكومة الإيطالية وكي يرفع رئيس الوزراء الإيطالي عن نفسه كل مسئولية ذكر وزيره أن الحكومة الإيطالية لم تمنح الجهات الأميركية أي إذن للقيام بمثل هذه العملية. وتم استدعاء السفير الأميركي ميل سيمبلر لمقر وزارة الخارجية في روما إذ تسلم رسالة احتجاج شديدة اللهجة.
ما لا يحتاج إليه الرئيس الأميركي في مثل هذه الأوقات هو قيام خلاف مع أحد أبرز الذين ساندوا سياسته في أفغانستان والعراق. ويرى المراقبون في أوروبا أن الغضب الإيطالي قد يكون بداية انتفاضة القضاء الأوروبي ضد ما يسمى سياسة مكافحة الإرهاب التي تمارسها الولايات المتحدة. مع صدور مذكرة إيقاف جماعية ضد 13 من عملاء السي آي إيه في إيطاليا ذكر في ميونيخ أن المدعي العام في ولاية بافاريا يدرس حاليا ملف رب عائلة ألماني من أصل لبناني يدعى خالد المصري خطفته السي آي إيه في نهاية العام 2003 إلى أفغانستان ثم تم الإفراج عنه بعد أشهر. كذلك في السويد وكندا يدرس أعضاء في البرلمانات ثلاث قضايا مشابهة ولا يستبعد المراقبون أن يتم إصدار مذكرات إيقاف ضد عملاء تابعين إلى السي آي إيه وهكذا يتم تسجيل سابقة في تاريخ العلاقات بين الولايات المتحدة وحلفاؤها في كندا وأوروبا. ولأن عدد عمليات الخطف المشابهة التي قامت بها السي آي إيه بلغت مئة على الأقل منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول العام 2001 لم يعد بوسع السلطات الأوروبية السكوت على ما يجري في أراضيها وخصوصا أن منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان أصبحت أعينها مفتحة على ما يجري كما بدأ البعض يشك في تعاون بعض الحكومات الأوروبية. ما لاشك فيه أن بعض الحكومات العربية تتعاون مع السي آي إيه إذ تتسلم منها المخطوفين ليجري استجوابهم تحت التعذيب إذا تطلب الأمر ابعاد السلطات الأميركية تهمة تعذيب المتهمين عن نفسها. المضحك المبكي أن واشنطن تطالب هذه البلدان العربية بتحقيق إصلاحات وإطلاق الحريات وتحقيق الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان. في الغضون تتحدث وسائل الإعلام الأوروبية بصورة عادية عما تسميه خطوط السي آي إيه الجوية مشيرة إلى الطائرات التي تحط من دون سابق إنذار في مختلف مطارات العالم وتقل على متنها وحدات الخطف التي تلاحق المطلوبين للسلطات الأميركية وخطفهم. في الغضون تنتقد وسائل الإعلام الأميركية عمليات خطف العرب التي تقوم بها السي آي إيه ووصفتها بأنها أسوأ خرق لحقوق الإنسان. مثل هذه الانتقادات داخل الولايات المتحدة لا تسر الرئيس بوش، إذ يكفيه أن معتقل غوانتنامو أصبح رمزا للدوس على حقوق الإنسان. ويرى عضو مجلس الشيوخ في الحزب الديمقراطي المعارض في الولايات المتحدة، إدوارد كنيدي أن الإدارة الأميركية تتسبب في خسارة الولايات المتحدة صدقيتها وحقها في مطالبة دول أخرى باحترام حقوق الإنسان. وبينما يدافع اليمينيون في الولايات المتحدة عما يجري في غوانتنامو يزيد الحرج عند الكثير من الأميركيين الذين أصبحوا يرون أن ما يحصل في غوانتنامو مخالف لحقوق الإنسان. لكن الرئيس بوش دافع عن عمليات إرهاب المواطنين العرب في أوروبا وكندا وقال: "ان الولايات المتحدة لا تسلم أحدا إلى بلدان تمارس التعذيب في السجون".
لا يتوقع المدعون العامون في ميلانو وميونيخ وستوكهولم أي مساعدة من الحكومة الأميركية. وقال عميل السي آي إيه السابق مايكل شوير انه حتى لو قررت الإدارة الأميركية تسليم أعضاء الوحدة الخاصة التابعة إلى السي آي إيه لاستجوابهم ومحاكمتهم في أوروبا فإن المسئولين عن عمليات خطف العرب يشغلون مناصب رفيعة في السي آي إيه وفي البيت الأبيض. هذا ما كشفت عنه قضية خالد المصري تاجر السيارات المقيم في مدينة أولم البافارية وكان يزور المركز الإسلامي في المدينة. منذ الشهر الماضي تطالب السلطات المختصة في ولاية بافاريا واشنطن بمعلومات تفصيلية عما عايشه خالد. تريد السلطات الألمانية معرفة سبب وضع اسم خالد على قائمة المطلوبين للولايات المتحدة علما بأن السلطات الأمنية الألمانية نفسها لم تشك فيه. كما يريد الألمان معرفة سبب نقله إلى أفغانستان وسجنه من دون الحصول على محام. وكان وزير الداخلية الألماني أوتو شيلي طلب من مدير السي آي إيه بورتر جوس عدم تكرار مثل هذه العمليات التي تؤدي إلى نتائج سياسية سلبية على إدارة بوش. وفي حال فوز المحافظين الألمان بزعامة أنجيلا ميركل بالانتخابات في سبتمبر/ أيلول ليس من المنتظر أن تصر برلين على الكشف عن جوانب قضية اختطاف خالد لأن ميركل ستكون حريصة جدا على إصلاح التوتر الذي نشأ بين حكومة شرودر وإدارة بوش بصورة خاصة بسبب حرب العراق. لكن إذا أصر المدعي العام في ميونيخ على رأيه فقد تنشأ سابقة في تاريخ العلاقات الألمانية الأميركية. وكما جرى في إيطاليا قد تصدر مذكرة إيقاف بحق عملاء في السي آي إيه في ألمانيا أيضا. بعد نشر قصة خطف خالد المصري التي عرض فيها معاناته وكيف عاش طيلة اشهر في خوف دائم قالت مراجع أميركية انه اعتقل خطأ لأن اسمه مطابق لاسم أحد المطلوبين الذي كان على صلة بأعضاء خلية هامبورغ الذين شاركوا في تخطيط وتنفيذ هجوم الحادي عشر من سبتمبر .2001 كما في حال خطف أبوعمر في ميلانو وحالات أخرى في السويد وكندا فإن قضية خالد المصري توضح بما لا داعي للشك أن السي آي إيه وراء عملية الخطف. في الغضون نشرت قصة خالد في الولايات المتحدة أيضا وأصبح خالد وهو أب لأربعة أطفال نجما إعلاميا في الولايات المتحدة وهذا كفيل بأن يزعج الرئيس بوش. حتى اليوم ترفض الولايات المتحدة الاعتذار إلى خالد المصري وأبلغ وزير الداخلية الألماني جوس أن السي آي إيه ليست مستعدة لتنفيذ هذه الرغبة. هذا ليس في صالح واشنطن، ففي الغضون ينشط أعضاء في البرلمان الأوروبي للتدخل من أجل وقف عمليات خطف العرب في أوروبا ويعتزم مانفرد جندجيديش محامي خالد رفع دعوى ضد السي آي إيه أمام محكمة أميركية. الرأي العام الإيطالي حاقد على سلوك الولايات المتحدة، وخصوصا أنه لم ينس بعد كيف قام جنود أميركيون بقتل عميل المخابرات الإيطالية نيكولا كاليباري أمام حاجز قريب من مطار بغداد وكان يقل الصحافية جوليانا سجرينا بعد الإفراج عنها. الأمور زادت سوءا بالنسبة إلى رئيس الوزراء الإيطالي بيرلسكوني. وبعد يومين فقط على تصريح وزير البرلمان الإيطالي بأن الحكومة الإيطالية ليست لها يد في عملية خطف الإمام أبوعمر، سربت السي آي إيه معلومات للصحف الأميركية جاء فيها ان العملية تمت بالتنسيق مع المخابرات الإيطالية وان حكومة بيرلسكوني كانت على علم بها منذ اللحظة الأولى
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1069 - الثلثاء 09 أغسطس 2005م الموافق 04 رجب 1426هـ