لقد بات واضحا أن هناك جملة من الهواجس السياسية التي تراكمت منذ أعوام، من دون أن تجد لها حلا، بدأت تطفو على السطح في البحرين وفي أقطار عربية أخرى. لتزيد من عوامل الشك والريبة، حتى أصبحت تشكل محددات سلبية تعوق التنمية الشاملة وتهدد الأمن الوطني بل النظام العربي أيضا، إن كان في قوامه أعمدة مازالت باقية، بعد أن تحطم معظمها بفعل الاختلالات الداخلية والاحتلالات العسكرية الأجنبية، والتدخلات الخارجية.
فعلى المستوى البحريني، من الملاحظ أن التحركات والتسويات والتوافقات السياسية فيما يخص الشأن الوطني بسبب القوانين والتوترات التي تحدث بين آونة وأخرى، والاحتقانات والحوارات التي تتم لحلها، تقع كلها في أثناء تأزم الأوضاع، بل في ربع الساعة الأخيرة منها عندما يوشك المجتمع أن يصل إلى حافة الهاوية، وتنقطع تلك الحوارات في أوقات الانفراج النسبي، ما يحدونا إلى دعوة جميع الفعاليات ومن كل الأطراف إلى إبداء الحرص على إيجاد قناة حوار دائمة تحافظ على لغة العيش المشترك بين المعنيين بالهم الوطني بمختلف تياراتهم، ويشمل ذلك ما أطلق عليه دائما "المعارضة والمصافحة"! ولعلي هنا أدفع بفكرة طالما دعونا لها في السابق وأثبتت الأزمات حاجة الوطن إليها، وهي عقد اجتماع منتظم حول دائرة مستديرة بين المختلفين والمؤتلفين، نواب، شوريين، مجتمع مدني، شخصيات وطنية على طاولة حوار واحدة للتداول في الشأن السياسي والاجتماعي والقضايا المستجدة، وتبادل الأفكار والرؤى من دون التزام فرضي أو هيمنة، وهو ما يوفر قناة حوارية دائمة تؤسس للغة عيش مشترك لا تنقطع بما يجنب هذا الوطن العزيز منزلقات كادت سابقا أن توقعنا في الهاوية. فلقد أصبح تراكم هذه المشكلات من دون حل يشكل معضلة وفجوة تتسع لتهدد السلم الأهلي ومصدرا دائما للتوتر إن لم نجد لها حلا، كالبطالة، التجنيس السياسي، القوانين المقيدة للحريات مثل قانون الجمعيات وقانون التجمعات وفي الأشهر المقبلة سيطل علينا قانون خلافي آخر وهو الصحافة.
وهذا الأمر يعني بشكل صريح ضرورة تراجع الحكومة عن الصيغ الماضوية في العمل السياسي الوطني والنيابي والمدني، وخصوصا عودة السلطة التنفيذية عن أنماط الأنظمة التي تمارس الحكم اعتمادا على القوة المطلقة والبطش، بديلا عن قاعدة كسب الرضا الطوعي، عبر تعزيز مسارات الاختيار الحر وتوسيع المشاركة الشعبية، ونحن هنا إزاء عرض مشكلة تكاد تشكل ظاهرة في الأقطار العربية إن لم تكن استفحلت منذ زمن، وحلها يستدعي موقفا برلمانيا وشعبيا ضاغطا باتجاهات وطنية وقطرية أولا، وعلى مستويات مختلفة، أبرز مقارباتها مبني على تعزيز حقوق الإنسان من خلال العمل البرلماني والمدني، وتجر المجالس النيابية والشورية على مساءلة ومحاسبة الحكومات علانية لا في اللجان المغلقة، وتشكيل لجان التحقيق البرلماني في قضايا الرأي العام وخصوصا تلك المتصلة بالفساد، ونزع الثقة عن الوزراء والحكومات وإسقاطها عندما يقتضي الأمر، والابتعاد عن ديمقراطية الترجي والتوسل التي رسخت أعرافا سياسية وولاءات لا تساعد على بناء مجتمعات عصرية وحديثة قوامها المساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين.
ولعلي هنا أستشهد برأي الباحث والناقد العربي الفلسطيني أنيس مصطفى قاسم وهو من مؤسسي منظمة التحرير الفلسطينية حينما يقول "... إن الحياة النيابية في الوطن العربي تمر بأزمة حقيقية، ليس فقط بما تعانيه الانتخابات من تزوير، وليس فقط من سيطرة حزب واحد على عضوية المجالس النيابية في عدد من الأقطار أو التحكم في الترشيح للعضوية، وليس فقط في الانقطاع الحقيقي بين النائب والناخب بعد الانتخابات، وليس فقط من سيطرة الحكومات على المجالس النيابية والشورية، وإنما أيضا وفوق هذا كله لأن العضوية في البرلمان أصبحت في الكثير من الأقطار مصدرا للثراء وما يتبع ذلك من حرص النائب على العمل المتواصل - ليس لأجل المواطنين الناخبين - للبقاء في هذا الموقع من خلال تقديم التنازلات عن المواقف المبدئية وبالنفاق للحاكم ومسايرة السلطات ومداهنتها...".
وإزاء ما تقدم ربما من المناسب هنا أن ألفت نظر بعض إخواني النواب في البحرين، للتمني عليهم بأن ينأوا بأنفسهم عن مثل هذه الاتهامات، وأن يحكموا ويحكموا على ذواتهم من خلال الممارسة البرلمانية الفعلية، من أجل أن يتمكنوا وبجدارة وصدق من استحقاق صفة المدعي في محاسبة الوزراء والمسئولين عن الفساد الحكومي، وما أكثره؛ حتى يستحقوا وكالة الناخب وتمثيله أيضا.
ويبقى أن هنالك امتحانا عسيرا لنواب البحرين والبرلمانيين العرب أيضا، وهو إثبات أنهم سيطورون من حضورهم في الحياة العامة وتفاعلهم مع تطلعات شعوبهم، كما هو الحال في الإصرار على المشاركة في صوغ استراتيجيات وسياسات دولهم من خلال تعديل واختصار العقبات التشريعية والبيروقراطية في آليات صنع القوانين، والتقدم خطوات أكثر في بناء القدرات النيابية على المساءلة والمحاسبة والتحقيق البرلماني، والاستعانة بالتكنولوجيا لفائدة التشريع والرقابة، والإثبات إن البرلمانيين سيكونون الضامن الحقيقي لدولة القانون والمؤسسات، ولاستقلال القضاء، وهم من يتحمل مسئولية تعزيز دور مؤسسات الرقابة بما يسهم في بناء نهضة وتنمية شعوبنا في حاضرها ومستقبلها.
وعودة إلى الهواجس العربية وهي في تزايد مستمر، وفي هذه المرة هي عربية المنشأ والتجلي، وتتطلب لمواجهتها أهبة وتماسكا عربيين نأملهما ولا نجد أثرا لهما حتى الآن. الأول لمواجهة مخطط يهدف إلى جعل لبنان الشقيق موقعا تبادليا للتوازنات والعنف والفوضى في المنطقة، على رغم أنه لم ينهض من كبوته بعد، إثر الزلزال الذي ضربه باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ومن بعده آخرون من الفعاليات السياسية والثقافية، ما ضاعف من جملة الانتكاسات والاختلالات الأمنية والإرهابية التي تعرض لها الشعب اللبناني، وهو حتى الآن مازال يمشي درب الآلام إلى خلاصه، محققا إنجازات ديمقراطية أدهشت العالم، من جملتها الانتخابات النيابية الماضية، فلبنان إلى اليوم مازال يعيش واقعا قلقا ناتجا عن قيام العدو الصهيوني برفع درجة التوتر والتصعيد على حدوده الشمالية مع لبنان مستفيدا من القرار الأممي 9551 الذي اتخذ وصيغ لحسابه وفصل على مقاسه، ووضع سلطة القرار الدولي في مواجهة ضد لبنان، لا لشيء إلا لأن الشعب اللبناني الشقيق ومقاومته الباسلة قاوم الاحتلال والعدوان الصهيوني وأجبره على الخروج مدحورا مذعورا عن معظم أراضيه.
ولبنان هنا نموذج لما يضغط علينا كعرب من هواجس ومخاوف ناتجة عن استمرار سياسات العدو الصهيوني في المنطقة وزرعه كبؤرة استيطانية بين الشعوب العربية، ولا يخفى أن هناك خطرا آخر دق أبواب عدد من الدول العربية وكاد أن يخلخل استقرارها الاجتماعي، وهو الإرهاب الذي يعتبر في أصله صناعة صهيونية، كما أن كل إرهاب مهما اتخذ من صفات وأسماء بعد التدقيق، سنجد من خلال مسحته وسنحته أن المستفيد منه دويلة العدوان، حتى أن ما يوصف بالحرب ضد الإرهاب الإيديولوجي والديني إنما هي عناوين لحروب تدار بالوكالة عن الكيان المحتل ومعها كارتلات إنتاج الأسلحة والنفط المتوحشة، وأحد أهدافها إرهاق واستنزاف الأنظمة العربية وربما تقسيم المقسم وتشطير المشطور منها، ليسهل بعد ذلك السيطرة على الموارد العربية ومعها تنفتح آفاق الشرق الواسع على مصراعيها.
وتأسيسا على ذلك، ربما يجد العرب أنفسهم أمام صيف ملتهب لا ينفع لإطفائه سوى مبادرات حقيقية من الأنظمة العربية الحاكمة بالاستدارة نحو شعوبها والتصالح مع المواطنين، لتوفير عوامل تقوية الجبهات الداخلية من خلال خلق قاعدة اجتماعية عريضة مساندة والكف عن الهرولة للحج إلى واشنطن بمناسبة ومن دونها لتلقي التعليمات والايعازات، وهي توجيهات وإيعازات توسع من الهوة بين الحكام والحكومات مع الشعوب، وتظهر الحكام العرب كأنهم أدوات في السيطرة والتنفيذ الاستعماريين، نظرا إلى موقف واشنطن الاستعلائي المساند للكيان الصهيوني العدواني شهارا جهارا ضد رغبات الشعوب العربية وفي المقدمة منها الشعب العربي الفلسطيني وكفاحه التحرري من أجل دولته المستقلة على أرضه، واستمرار احتلال العراق الشقيق وتدمير بنيته وهياكل دولته.
إن الحرب ضد الإرهاب المعلن منها والمخفي، في الداخل والخارج، تستخدم كل ما هو عابر للقارات والحدود والقوميات من أسلحة وشركات ورساميل متوحشة واقتصادات ودبلوماسية ناعمة وهمجية فظة، إضافة إلى ما يدعونه زورا وبهتانا ويؤججونه، بالفوضى البناءة، وهي على ما نرى لن تستثني قطرا عربيا، إذ ستدفع القوى الاستعمارية إلى الواجهة - بحسب الحاجة - اسم القطر العربي المستهدف بتفجير ما، أو تحريك لخلية إرهابية، أو اغتيال أو إثارة لخلافات حدودية أو عرقية أو مذهبية دفينة لخلق اضطرابات تضعف الحكومات والشعوب معا حتى يسهل استنزافها ونهب خيراتها.
وتأسيسا على ما تقدم، فإن أي قطر عربي، كبر أم صغر، لن يكون بمنأى عن الاستهداف ولا يجب عليه أن يشعر بالأمان، حتى لو التزم بشروط واشنطن كاملة، لما يجب أن يفعله، ولما يجب ألا يفعله كي ينال رضا إدارة مشروع حرب السيطرة المفتوحة الشهية على نهب موارد الشعوب.
* النائب الأول لرئيس مجلس النواب
العدد 1068 - الإثنين 08 أغسطس 2005م الموافق 03 رجب 1426هـ