ألقاه في اليم مكتوفا وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء أطاح انقلاب عسكري أبيض في الثالث من أغسطس/ آب 5002 بالرئيس الموريتاني معاوية ولد الطايع الذي لجأ إلى النيجر لدى عودته من السعودية، وأعلن قادة الانقلاب تشكيل مجلس عسكري من 81 عضوا لفترة انتقالية مدتها عامان تجرى بعدها انتخابات ديمقراطية. وحظي الانقلاب بترحيب شعبي تمثل بخروج تظاهرات فرح وتأييد شعبي داخلي ومن شخصيات معروفة للمعارضة الديمقراطية الموريتانية.
طبعا، قامت المفوضية الأوروبية ومفوضية الاتحاد الإفريقي والأمين العام للأمم المتحدة والخارجية الفرنسية والإدارة الأميركية بإدانة الانقلاب، معتبرة ما حدث عملا غير دستوري وغير شرعي، وأصرت الإدارة الأميركية على اعتبار ولد الطايع الرئيس الشرعي للبلاد.
والسؤال المطروح: ماذا ترك العالم الغربي والبيروقراطي الإفريقي للشعب الموريتاني من خيارات؟ هل يمكن لشاب موريتاني أن يحلم بانتخابات رئاسية عادلة توصل رمزا سياسيا يحبه للسلطة؟ أم أن عليه أن يعيش ويموت بوجهه ولد الطايع الذي يكتسح الانتخابات ويقرر معيشة العباد وسياسة البلاد؟ أليس الاتحاد الأوروبي والإدارة الأميركية مسئولين مباشرة عن جعل الانقلاب العسكري الوسيلة الوحيدة للتغيير "السلمي!" في البلاد؟ أليسوا من تواطآ مع هذا الدكتاتور في كل جرائمه لمجرد أنه فتح سفارة إسرائيلية في البلاد وخاض حربا ضروسا ضد إرهاب غير موجود وسجن القاصي والداني من دون محاسبة إلا من المنظمات غير الحكومية لحقوق الإنسان التي كانت غالبا ما تصرخ في العراء؟
تسلم العقيد معاوية ولد الطايع السلطة إثر انقلاب عسكري على رئيس الجمهورية أثناء سفر الأخير لبوروندي في 21 ديسمبر/كانون الأول 4891، أي قبل عشرين عاما، بعد فترة تولى فيها رئاسة الوزراء. ومنذ ذاك الحين، تلون النظام السياسي في موريتانيا بكل أطيافه المعروفة من إيديولوجيات وخيارات إقليمية وتحالفات وعداوات خارجية. لكن مع ثابت واحد: قمع الحريات الأساسية والضرب بعرض الحائط بالمواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان. فهو لم يصدق على العهدين الدوليين الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كذلك لم يوقع اتفاق مناهضة التعذيب. وعلى رغم أن موريتانيا قد عرفت الفضاء غير الحكومي والتعددية السياسية مبكرا، فإن العقدين الأخيرين اتسما بهيمنة سلطة الأمن والحزب واعتماد الولاء للسلطة أساسا لتصنيف المواطنة.
لم تكتف السلطة التنفيذية بتفريغ السلطة القضائية من مبناها ومعناها، بل عززت ذلك باستهداف نقابة المحامين وكل المحامين والقضاة المستقلين عنها. وقد وقعت في ظل الحكم الحالي عدة مجازر جماعية في مطلع التسعينات، حاول بعدها زعيم التجمع العسكري الأمني الحاكم مأسسة وضعه عبر الإجراءات الشكلية المعروفة لتفريغ الديمقراطية من معانيها: انتخابات تحت السيطرة، تقييد حركة المعارضة السياسية، حظر عمل المنظمات الحقوقية غير المطواعة، محاصرة وسائل التعبير السلمية الواقعة خارج الفضاء الحكومي.
في 3991 أصدر العقيد معاوية ولد الطايع عفوا عن المجرمين لا يتمتع بأية قيمة في القانون الجنائي الدولي عرفا ونصا. فالجرائم التي ارتكبت في 0991 - 1991 لا تزول بالتقادم ولا يلغيها عفو رئاسي مشارك في المسئولية. في تلك الفترة، تم اغتيال قرابة 005 جندي وصف ضابط وضابط من الأفارقة السود في عدة معسكرات للجيش، وقد نشرت منظمات حقوق الإنسان في حينه قائمة بأسماء الضحايا والجلادين. هذا إضافة إلى جريمة طرد عشرات آلاف السكان الأفارقة السود من الأراضي الموريتانية إلى السنغال، مازال قسم كبير منهم حتى اليوم من دون أوراق وفي أوضاع مزرية.
وظفت السلطات الموريتانية قانون الصحافة المتشدد للعام 1991 لمعاقبة الصحافيين المعارضين للنظام. يمنح بند 11 من القانون وزارة الداخلية صلاحية حظر المطبوعات التي ترتكب جرائم فضفاضة مثل "الإساءة إلى المبادئ الإسلامية أو صدقية الدولة"، والإساءة إلى "المصلحة العامة" أو الإخلال "بالأمن والإسلام". وفقا لهذا القانون، فإن بيع أو توزيع مطبوعات مخالفة له قابل للعقوبة بالسجن أقصاها عام واحد ودفع غرامة مالية. يتشابه هذا القانون مع "مجلة الصحافة" التونسية و"قانون المطبوعات" السوري في تقييده للحريات. فهو يشترط فيما يشترط، تقديم نسخ أية مطبوعة إلى وزارة الداخلية قبل توزيعها.
على رغم أن نظام العقيد ولد الطايع، الجاثم على السلطة منذ واحد وعشرين سنة، صاحب سجل حافل بخروقات حقوق الإنسان منذ سنواته الأولى، فقد كانت الأشهر العشرون الأخيرة أكثر قتامة في مجال حقوق الإنسان. لقد تجاوز حصار المجتمعين السياسي والأهلي السنوات العشر الأخيرة واستهدفت قيادات المعارضة من أكثر من اتجاه. كما وجرت عملية خلط متعمد بين محاولات الانقلاب العسكرية تارة أو خطاب مناهضة الإرهاب تارة أخرى والنضالات السلمية المناهضة لجرائم السلطة وسياساتها، داخلية كانت أم خارجية. وصار حال الناس: تعذيب وتشريد وملاحقة مهما فعلنا، فما الفرق بين قلب نظام الحكم وإصدار بيان سياسي في رأس ولد الطايع؟
قبل الانقلاب بأسبوع، وزعت اللجنة العربية لحقوق الإنسان على نطاق واسع تقريرا ممتازا قام به ثلاثة من الخبراء الموريتانيين بعنوان "الطريق السياسي المسدود والمنعكس الأمني في موريتانيا: كيف يمكن فبركة إرهاب نافع؟". السلطة التي تلعب بالعنف تفقد الحق في احتكار العنف في المجتمع، والسلطة التي لا تحترم المؤسسات والدستور لا يمكن أن تفرض على الآخرين احترام مؤسساتها ومسئوليها. لقد ماتت الشرعية السياسية لولد الطايع منذ سنين، وقد سمعت من صديق موريتاني اعتقل بعدها بساعات جملة صغيرة ولكن نافعة بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في موريتانيا: لو انقلب أي ضابط على ولد الطايع لن تخرج مظاهرة حتى من نسائه وأبنائه للدفاع عنه. لقد باع شرفنا وجعل موريتانيا مزرعة للإسرائيليين بأبخس الأثمان، الشعب الموريتاني ليس للبيع ولم يعرض وطنه للبيع".
نحن ضد الانقلابات العسكرية، ولا يمكن أن نعطي ورقة بيضاء لأي انقلاب لا يشكل انتقالا فعليا سريعا للسلطة إلى الشعب. ولكن من الذي قاد الانقلاب هذه المرة؟ أليس تزوير مفهوم الديمقراطية والدستور والشرعية السياسية؟ أليس الصمت عن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان لمجرد صفقات سياسية واقتصادية قصيرة النظر؟
أجاب الرئيس الأميركي جون كينيدي مستشاره الشخصي الذي سأله: "كيف ندافع، سيدي الرئيس، عن حاكم قذر مثل باتيستا في كوبا ؟" بالقول: لأنه القذر بتاعنا...
عندما يتحرر العقل الرسمي الغربي من قذري الخدمات والأجر الرخيص والسياسة المفصلة بحسب الطلب وحكام الترويج والتهريج، يمكنه أن يطالب الشعوب والعسكر باحترام الشرعية الدستورية في موريتانيا وغيرها.
* ناشط حقوقي سوري مقيم في باريس
إقرأ أيضا لـ "هيثم مناع"العدد 1068 - الإثنين 08 أغسطس 2005م الموافق 03 رجب 1426هـ