هل هناك وصفة مانعة لرئيس الجمهورية، أي رئيس جمهورية عربية، بأن يخرج من بلاده رئيسا في زيارة خارجية ويعود إليها رئيسا، يبدو أنه لا توجد هناك وصفة ناجحة لتأكيد ذلك. الوصفة للعودة ان وجدت لا تخرج عن تطبيق الديمقراطية و الحكم الصالح، لا الديمقراطية الشكلية، يبدو أنها متعذرة في فضائنا العربي. موريتانيا كبلد المفروض أن يهرب من تحمل وزر حكمها العقلاء، لأنها بلد ذات ثلاثة ملايين نسمة تقريبا، ولكنها في قاع البلدان الفقيرة والمتخلفة، وإذا لم يكن الفقر عيبا، وهو ليس كذلك، فان تقاعس السلطات المختلفة والمتعاقبة على الحكم في موريتانيا عن تقديم الحد الأدنى من الإصلاحات، وفشلها في حل المعضلات التي يواجهها المجتمع الموريتاني، جعل من عدم الاستقرار سمة من سمات البلد الذي يقع في أقصى الغرب العربي.
يقال ان سرت في موريتانيا تجد من بين كل ثلاثة مواطنين شاعرين، وربما القول صحيح أن من بين كل ثلاثة ضباط في موريتانيا اثنين يطمحان إلى السلطة، وثالث يفكر في انقلاب قادم. في السنتين الأخيرتين كانت هناك محاولتان لانقلابين على الحكم القائم أفشلا، هذا ما عرفه المجتمع الخارجي، ولا يعرف أحد كم من المحاولات اما أجهضت قبل أن تنضج وتظهر إلى العلن، أو صرف النظر عنها مؤقتا وأرجئت إلى فترة أخرى.
البلاد ذات العلم المميز الهلال والنجمة التي حصلت على الحكم الذاتي في العام 6591 وكانت آنذاك محط خلاف لمن تعود تبعيتها بعد الاستقلال هل تصبح مستقلة أم تتبع التاج المغربي الذي كان يطالب بها، دفعتها ظروف التوازنات الدولية والإقليمية إلى الاستقلال، ولكنها لم تر الاستقرار، ولم يصبح فيها شيء ثابت منذ استقلالها إلا أسماء من تسلم القيادة، فهو لا بد أن يكون "ولد" كثيرا ما ينتهي به اسمه؟
ولد الطابع لم يطع بعض مستشاريه، وزج بمجموعة مختلفة من مخالفيه في السجن، وكالعادة استعان بمن يعتقد أنهم يستطيعون حمايته، حتى لو ارتكب من الأخطاء أفحشها، وهو قد ادخل المخالفين الحقيقيين أو المحتملين إلى السجون، فأصبح الحارس المؤتمن بعد ذلك هو رأس الحربة في التغيير، وهي معادلة تكاد تتكرر في كثير من بلاد العالم الثالث، تخرس الألسن الناقدة، حتى لا يسمع من في السلطة زحف الدبابات وطلقات الرصاص.!
بعض الحكومات والحكام يستعجلون تصديق بعض التقارير التي ترفع اليهم على أنها تقارير حقيقية مطلقة، قيل لحكام نواكشوط، عليكم بالاعتراف بدولة "إسرائيل"، فهي وحدها تقربكم من الولايات المتحدة، وهي وحدها تحفظ لكم الحكم المطلق، وهي وحدها تقدم اليكم المعونات وتفتح باب الاستثمار الدولي، وهي نظرية يرى بعض العرب صحتها، فأصبحت في موريتانيا سفارة إسرائيلية وأيضا تيار معاد للتطبيع. أرادت "إسرائيل" من خلال علاقة طبيعية بموريتانيا البرهنة على أنها تستطيع أن تصل إلى أبعد بلد عربي وتقيم العلاقات معه، لم تكن موريتانيا بحاجة حقيقية إلى ذلك التطبيع، كان الحكام فقط بحاجة إلى ذلك، فأصبح موضوع العلاقة بـ "إسرائيل" مبكى للمعارضة ومحطة حشد للمعارضة، في أجواء مشحونة بالتفكير العروبي المعروف في تلك البلاد. زاد من المخاطرة أن النظام الموريتاني المطاح به أخذ بكيل الاتهامات الوطنية لكل مخالف له، وهو تناقض سرعان ما استفاد منه الطامحون إلى الحكم. و ربما اعتقد النظام الموريتاني أن العلاقة مع "إسرائيل" أو حتى أميركا سيكون لها فعل الحامي، لم يكن كذلك، بل أصبحت احدى الجمرات الساخنة في التأليب ضد النظام.
لعلنا نتذكر أن مثل هذه الخطوات التي يراد بها من بعض الأنظمة الركض إلى الأمام، حدثت في السودان أيام جعفر النميري، الذي أراد أن يهرب إلى الأمام بعد أن شعر بالضائقة السياسية تحوط بنظامه، فأصدر قرارات سبتمبر المعروفة،أصدرها من دون حساب لأهل الجنوب وبعض أهل الشمال، فأصبحت جمرة تطاولت حتى فرخت عددا من الانقلابات ثم حربا أهلية طاحنة مازال حتى اليوم يعاني منها السودان تقدم جثث السودانيين قربانا لها.
الآن الانقلابيون الجدد في موريتانيا لا يستطيعون أن ينفكوا من العلاقة بـ "إسرائيل"، كما لم ينفك أي من النظم السودانية التي تعاقبت على الحكم من قوانين سبتمبر المشهورة، مهما تكن الشعارات المرفوعة، يأتي الانقلاب الجديد في مطلع القرن الواحد والعشرين، و جميع الشعوب ذاهبة لتأكيد الحكم المدني والمشاركة الشعبية وتثبيت حقوق الإنسان، وهو انقلاب يرمي قفاز التحدي أمام التجمع الإفريقي الذي تضافرت جهوده واستقر رأيه، على ألا يعترف بأية حكومة إفريقية تصل إلى السلطة بانقلاب عسكري!.
كل ذلك لن يجدي في إرجاع العجلة إلى الوراء، سيبقى الانقلاب الجديد الذي يبدو من الأخبار الأولى انه مرحب به موريتانيا وحتى دوليا، سيبقى في السلطة، وستعترف به أولا الدول الكبرى متى ما قرر وقدم كل التطمينات بأن العلاقات الدولية السابقة التي أقامها النظام المطاح به ستبقى، وفي مركزها "العلاقة بـ "إسرائيل"" على أنها من أولويات الاستمرار، وكل من يعتقد من المراقبين أن التطبيع سيقل فهو واهم لان ذلك هو ثمن الاعتراف بالضباط الجدد. وستستمر الاستثمارات، وخصوصا النفطية، التي يقال ان أرض وبحر موريتانيا يحتضن بعضهما بعضا. ستبقى مشكلات موريتانيا ذات ثلاثة الملايين نسمة قائمة، لأن الفقر لا يزال بانقلاب عسكري، الفقر يزال بخطط طموحة في التعليم و الإنتاج و العناية بالبشر، فالتكوين الجميل بين أبناء بني حسن العرب الذين هاجروا منذ زمن إلى تلك المنطقة واختلطوا بالبربر هناك فتكون ما يعرف اليوم بموريتانيا المسلمة و الشاعرة، يحتاج إصلاح أمرهم إلى أكثر من بيان عسكري أول يقرأ من الإذاعة، انه يحتاج إلى توافق وطني واسع وحقيقي، ليس من المؤمل أن يوجد في بلاد فقيرة تتنازع السلطة السياسية فيه نخبة عسكرية ويهمش المواطنون، فالانقلاب ليس نهاية المطاف، ولو كان كذلك لاحتفظ ولد الطايع وآخرون قبله ساروا على هذا الدرب بالسلطة إلى اليوم.
* كاتب كويت
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 1068 - الإثنين 08 أغسطس 2005م الموافق 03 رجب 1426هـ