حتى الآن لاتزال مسألة الإجراءات القانونية التي اتخذتها حكومة طوني بلير بشأن الجاليات والهيئات المسلمة في بريطانيا، تلاقي ردود فعل مؤيدة ومعارضة من قبل الجهات المعنية ومنظمات المجتمع المدني والصحف والإعلام المرئي. فالإجراءات جديدة على بريطانيا وهناك مخاوف من أن تتحول إلى سلوك قانوني يستهدف سياسيا الجاليات المقيمة أو المتجنسة حديثا.
حاولت حكومة بلير تبديد المخاوف بالتأكيد مجددا على أن تلك الإجراءات جاءت بناء على رغبة المسلمين البريطانيين حين أبدت بعض الهيئات استعدادها للتعاون من أجل محاصرة التطرف والعمل على تطويقه ومنع انتشاره. إلا أن التطمينات لم تكن كافية لإزالة الشكوك التي طرحتها بعض منظمات حقوق الإنسان التي وجدت في الكثير من البنود سياسة جديدة قد تتطور في المستقبل لمراقبة كل فئات المجتمع تحت ذريعة حمايتها من المخاطر الأمنية المتأتية من "الغرباء" و"الأجانب".
المسألة إذا لا تتصل بوضع المسلمين في أوروبا فقط وإنما هي ممتدة ومفتوحة على كل الاحتمالات بما فيها الهيئات المحلية التي تعترض أو تتعارض مع سياسة الحكومة بشأن قضايا السياسة الخارجية أو الداخلية. فالإجراءات بدأت محدودة وتستهدف فئات محددة، ولكن احتمالات توسعها واردة في حال تكررت أعمال العنف والإرهاب. ومن هذا المنطلق أبدت الكثير من الجهات البريطانية اعتراضها على تلك الإجراءات بدليل أنها قد تستخدم لاحقا لأمور تتجاوز السقف الذي حددته حكومة بلير.
الموضوع إذا أكبر من تلك المساحة الأمنية وهو ربما يتمدد باتجاه التضييق على مجالات الحراك السياسي والحريات العامة التي تشكل أحد أهم روافد المجتمعات الأوروبية في التمايز عن غيرها في الحقلين الدستوري والديمقراطي. والمخاوف التي أبدتها هيئات المجتمع المدني تصب في هذا الاتجاه... اتجاه محاولة الدولة تعزيز قبضتها الأمنية ومراقبة المجتمع تحت غطاء ملاحقة المتطرفين وشبكات الإرهاب.
عمليا وقبل الإعلان عن البدء في تطبيق الإجراءات القانونية أبدى البريطانيون استعدادهم للتضحية بالكثير من الحقوق والمكتسبات والتنازل عن بعض تقاليدهم المتصلة بالحريات الشخصية والعامة لمصلحة سياسة تضمن الأمن والاستقرار والسلامة الاجتماعية.
وهذا السلوك المخالف للأعراف رفع من نسبة مخاوف المنظمات والهيئات وجعلها تتنبه إلى نمو سلبيات في المستقبل تزيد من سياسة تدخل الدولة في حياة المجتمع وتخضع الناس إلى نوع من الرقابة تحد كثيرا من مساحة الحرية التي تأسست أصلا على قاعدة "العقد الاجتماعي" وحقوق "المواطن" ونظام "الثقة" القائم بين الدولة والمجتمع. فالإجراءات تزعزع تلك الأفكار وتعيد تشكيل علاقة قائمة على نظرية "الشك". وهذا يعني إعادة بناء منظومة علاقات داخلية تطيح بالكثير من المفاهيم التي تميزت بها أوروبا في سياسة تأمين مصالح الناس ورعايتهم.
أوروبا تقليديا تميزت بنظرية برغماتية تقوم على مبادئ الفصل بين السياستين الخارجية والداخلية. ففي الداخل تحترم المواطن وحقوقه والدولة تدير شئون الإنسان بشفافية ومن دون تدخل مباشر من قبلها في حياته الشخصية في إطار علاقة تقوم على الثقة المتبادلة. وفي الخارج اعتمدت الدول الأوروبية عموما سياسات مضادة إذ كانت تشجع أنظمة الفساد والدكتاتورية العسكرية وتدعم الانقلابات وتنهب ثروات الشعوب وتخوض حروب الإذلال والاقتلاع في بلدان آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية.
هذه السياسة المزدوجة بين الخارج والداخل تفسر أسباب هروب الرساميل من العالم الثالث إلى أوروبا وأميركا وإفقار الشعوب لمصلحة رفاهية المجتمعات في بلدان العالم الأول. كذلك أدت هذه السياسة المزدوجة إلى هروب كمية كبيرة من الناس من بلدانها بحثا عن عمل وإيجاد الفرص لعائلاتها. فالجاليات المسلمة في أوروبا لم تذهب إلى هناك للسياحة، بل خوفا من أنظمتها وبحثا عن حياة مختلفة تحترم قواعد الدستور والأخلاق في التعاطي مع الإنسان.
أوروبا الآن وبعد صدور تلك الإجراءات القانونية بدأت تتجه نحو سياسة جديدة في علاقاتها مع الداخل وأخذت تعيد إنتاج صورتها في الخارج محليا وتحديدا في أسلوب إدارة تعاملها مع جاليات تبحث عن الحرية والعلم وفرص العمل في قارة متهمة تقليديا بأنها السبب في فقرها وبؤسها.
حتى الآن تبدي منظمات حقوق الإنسان الأوروبية مخاوفها من تلك الإجراءات القانونية. فالمخاوف شرعية لأكثر من سبب منها يتصل بالمسلمين ومنها ما يتصل بالمجتمعات الأوروبية نفسها واحتمال تعرضها في الداخل لما كانت شعوب العالم الثالث هدفا له طوال قرون من عهود الاستعمار
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1068 - الإثنين 08 أغسطس 2005م الموافق 03 رجب 1426هـ