العدد 1068 - الإثنين 08 أغسطس 2005م الموافق 03 رجب 1426هـ

مثقفو الدولة البويهية... متملقون معارضون

الوسط - محمد المخلوق 

تحديث: 12 مايو 2017

دولة "بني بويه". .. قلما سمع الناس عنها، ومن سمع إما نظر إليها من واقع مذهبي - نظرة ممجدة أو متعصبة، وهنا نحن أمام محاولة لباحث تونسي توخى في دراسته الموضوعية إلى حد كبير، وانطلق بانسيابية ليسلط الضوء على حقيقة الأمر، من واقع دراسة النصوص وقراءتها بشكل مجرد عن التصورات المسبقة.

في البداية لابد من ذكر أن "المثقف" في الفكر الأوروبي المعاصر يعني فصيل الأدباء والمفكرين، وهؤلاء - كما يذكر المؤلف مصطفى التواتي - عرفوا قديما باسم "أهل الأدب"، وقد تشكلت هذه الفئة بشكل فارق اجتماعيا عما عداها، وخلقت لنفسها منظومة ثقافية إيديولوجية، والدراسة التي أعدها التواتي ترصد واقع هذه الفئة، وتتتبع علاقتها بالسلطة "بما تمثله من قوة مادية ومعنوية"، والمفاصل التي برز فيها الاصطدام بوضوح.

الدولة البويهية هذا الاسم الذي يختلط على كثيرين ممن يقرأون التاريخ العربي إذ يتقاطع مع أسماء أخرى مشابهة، هو اسم لدولة نابعة من أوساط عامة الديلم المحترفين للخدمة العسكرية الذين اعتنقوا المذهب الزيدي، وعملوا على نشره، ولقد جوبه البويهيون في الدراسات التاريخية، وعوملوا بأقسى المعاملة، وهنا يقف هذا الباحث التونسي ليجلي حقيقة الخدمة التي قدمها البويهيون للثقافة العربية الإسلامية والتي تركت آثارها عميقة فيها، تلك الخدمة ربما لم تكن حبا بل بدافع المصلحة، وفي صراط ذلك يعالج مسائل كثيرة، ويورد شواهد عديدة تخدم كلامه وتدعمه، وإن لم يخل من بعض الأخطاء التاريخية التي لا تنفي قيمة الدراسة التي استحق بها عن جدارة لقب "مشرف جدا".

عقد في البداية فصلا تتبع فيه بشكل استقصائي كمقدمة منهجية ما كتب عن الأدب العربي عموما، والقرن الرابع الهجري خصوصا، وتتبع مصطلح "الأدب"، واعتمد منهجية تقرأ الوضع الحضاري بفهم تشابك المنظومات الثلاث "المادية، الاجتماعية، الايديولوجية" من خلال البعدين الآني والتاريخي.

وقد بوب التواتي دراسته خمسة أبواب. بحث في "طبيعة الدولة البويهية" عوامل قيامها، وتطورها، وخصائصها البنيوية، وما أدى إليه ذلك كله من نشوء ظواهر ثقافية فارقة نسبيا منحت الأدباء والمفكرين آنذاك مكانة خاصة مميزة. وفي "تعريف أهل الأدب" تتبع المصطلح عربيا، والتركيبة الاجتماعية للأدباء، وأوضاعهم ووظائفهم ولاسيما "أصحاب الدراريع" "كتاب الدواوين". وبحث في البابين اللاحقين أوضاع أهل الدراريع وسائر فئات أهل الأدب، وعلاقتهم بالدولة، خاتما بعرض مواقف بعض الأدباء من الأوضاع آنذاك.

الدولة البويهية دولة نشأت كمخاض طبيعي لظروف الدولة العباسية، بما عانته من "انكماش المبادرة الاقتصادية، وتفاقم الركود المجتمعي" وسياسة "التتريك"، ما دفع إلى تراجع دور الفئات الاقتصادية النشطة لحساب المؤسسة العسكرية، فيما الطبقة العامة ورغم كونها في الغالب منفعلة فإنها لم تقف موقف المشاهد بل ساهمت ليكون لها موطئ قدم فيما عرف بـ "فتن العامة". الفوضى تلك ولاسيما العسكرية منها مع ظهور "الإقطاع العسكري" أبرزا طبقة أرستقراطية عسكرية قوية... كل ذلك تضافر ليفرز على أرض الصراع قوة "المرتزقة من الديلم" الذين تنامى نفوذهم بعد فشل محاولات الاحتواء العباسية لهم، والمميز في البويهيين هو حفاظهم على التنظيم الأسري العشائري، واعتماد الكنفدرالية طريقا للحكم، وهذا الأخير كان عامل صراعات وانهيار.

أما في الجانب الاجتماعي فيستنتج مصطفى التواتي أن البويهيين ورغم كونهم زيديين فإنهم لم يتعصبوا، بل كان التعايش ظاهرة بارزة، رافضا تحميلهم وحدهم مسئولية الفتن الكثيرة. وعلى الصعيد الاقتصادي فقد كان للثراء وتنظيم الجباية والاستصلاح الزراعي أثرها. أما ثقافيا فقد كانت النتيجة معاكسة لما يتوقع، إذ ازدهر الأدب، فالصراع السياسي ذكى الساحة الثقافية وشحنها بالمتناقضات.

وفي الفصل الذي بحث فيه عن الأدباء ولاسيما "أصحاب الدراريع" نبه إلى أن تحويل الكتابة الديوانية إلى مهنة مخصوصة لها تقنياتها وأسرارها أسهم في تكوين فئة ثقافية إدارية واجتماعية متميزة، ما أثار ضدهم صراعا من غيرهم من أدباء ومفسرين ومحدثين. وتتبع لنماذج من الكتاب، مبينا حاجة البويهيين - الذين لا عهد لهم بالشئون الإدارية والسياسية - إلى الكتاب لتوطيد دعائم دولتهم، وهو ما نمى لدى الكتاب نزعة في السيطرة ما تلبث أن تقمع، فأصبحت بالتالي هذه المهنة خطيرة عموما. أما الأثر الذي خلفوه وهم الأوفر حظا فتمثل في الأدب والمجالس الأدبية واللهوية وعمارة القصور والغناء والصنعة اللفظية، وهي كلها مفردات حضارية فرضتها فئة ارتبطت بالديوان البويهي لتمثل المثقفين الرسميين.

وفي الجانب الآخر، أي الأدباء من غير الكتاب فقد فرض عليهم احتكاكهم بالسلطة من جهة، واختلاطهم بالناس من جهة لعب دور الوساطة، أما السلطة فعملت على كسبهم إلى صفها. وهم إن أعوزتهم الحاجة لجأوا إلى الارتزاق بالمنادمة والمجالسة، والمديح شعرا، وهنا يعتبر التواتي أن العصر البويهي كان ذهبيا سواء على مستوى الممارسة أدبا أو إنتاجا أو فنا. وقد توافرت الظروف ليصبح المديح سلعة رائجة، فيما كان المتنبي حذقا وبارعا في تسويق "المديح" والدعائية له مع ما يميزه من خصائص فنية وشهرة، ما دفع إلى محاولات بويهية لكسب هذا المثقف، ولما عجزت لجأت إلى محاربته بنظرائه من الأدباء، ما حدا ببعض الباحثين إلى طرح فرضية ضلوع البويهيين في قتله الغامض!

وتحت عنوان "صوت الارستقراطية" يرى ان بعض الأدباء حملوا محركا سياسيا أكبر منه ماديا، ومثل لهؤلاء بالشريف الرضي الذي رأى فيه نزوعا - يفرضه النسب والأدب واحساس بالوتر والظلامة - إلى تسنم الخلافة، وفي المقابل يشعر بالامتنان لطبيعة التعامل الخاصة معه ما دفعه إلى تقديم تنازلات مبدئية مهمة طال أثرها. في مقابله يقف المأموني العباسي الموتور أخيرا والذي سعى من تلقاء نفسه أو مدفوعا للتفكير في الثورة إلا أن الحظ لم يحالفه.

ويأتي أخيرا الباب الخامس أطول الأبواب ويناقش فيه موقف أهل الأدب "المثقفين الآخرين غير النفعيين" من واقع التدهور العام في الدولة البويهية، والذي اتخذ طابعين: طابع الاستخفاف العبثي، والطابع الإصلاحي. المهمشون مثلوا امتدادا لشريحة إلا أنهم انتظموا في تشكيلات وميليشيات سعت لتحقيق العدالة الاجتماعية في العهد البويهي، وهم خليط قومي، ومبدأهم الفتوة، إلا أن مثقفيهم لم ينجحوا في التأثير على القرار وسياسة الدولة، واعتمد الأدب لديهم على الكدية والسخف. في قبال المهمشين برز المثقفون الإصلاحيون، وعرض لثلاثة نماذج اتفقت في التشخيص وضرورة الإصلاح، واختلفت في طرق المعالجة: "أبوحيان التوحيدي: صلاح الرعية بصلاح الراعي، ابن مسكويه: العلاج بالأخلاق، إخوان الصفا: مشروع التغيير الشامل". أما العلماء فقد وجدوا عناية من الدولة المتسامحة مع كل الطوائف والتيارات، والمثير بنظره هو التأثير المتبادل بين أطراف النزاع الفكري، فحاول كل طرف الاستفادة من مراكز القوة في منهج الطرف الخصم وتوظيفها لصالحه





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً