تزخر وسائل الإعلام البحرينية هذه الأيام بحوارات ساخنة بشأن مجموعة من الإجراءات التي أقدمت عليها الدولة، والمتمثلة في إغلاق بعض المواقع الإلكترونية، وتحديد الخدمات التي تقدمها فنادق من فئة نجمتين وما هو أدنى. من السهل جدا توجيه أصابع الاتهام نحو جهة واحدة في الدولة والتي هي وزارة «الإعلام»، وعلى وجه التحديد وزيرة «الإعلام» الشيخة مي بنت إبراهيم آل خليفة. لكن في ذلك تقزيمٌ للمسألة، وإفراغها من جوهرها الحقيقي.
لابد لنا، قبل الدخول في صلب الموضوع، ومن أجل الإنصاف الإشارة إلى مسألة في غاية الأهمية، والتي هي دور وزيرة «الإعلام» في هذا الطريق الإجرائي الذي بدأ يأخذ حيزا يتجاوز حجمه الحقيقي.
إن من يعرف الشيخة مي آل خليفة، والمشوار المهني الشاق الذي قطعته على امتداد العقدين الماضيين في ساحة الإعلام والثقافة، يدرك أن مشروعها الثقافي/ الإعلامي للبحرين أطول قامة من خدمات تلك الفنادق، وأوسع صدرا من معالجة مجموعة من المواقع الإلكترونية، على رغم تعاطفنا مع كليهما في حقهما في الدفاع عن مصالحهما عبر القنوات الدستورية والشرعية وليس خارج دوائرها.
إن من يتصدى، كما فعلت الشيخة مي، لقراءة تاريخ البحرين من زاوية مختلفة، ومعالجة أحداثه من منطلقات جديدة، ومن يطلق مبادرات تتميّز بالتحدي ودعوة العقل للتفكير مثل فعاليات «ربيع الثقافة»، من الصعب عليه أن يهبط من تلك القمم الشاهقة التي عاش فيها، إلى أودية ضيقة يصعب التنقل بين دروبها. إعادة كتابة تاريخ البحرين، وفعاليات متميزة للثقافة، كلاهما يتطلب ممن يقف وراءهما أن يكون ذا رؤية استراتيجية طويلة المدى، وتعايش مع الآخر بدلا من نفيه، أو مصادرة حقوقه.
أي مواطن عاد بوسعه أن يسوق سيلا من القرائن التي تؤكد صحة تلك الإجراءات وسلامتها، وحمايتها لأمن الوطن والمواطن واستقرارهما، لكن وبالقدر ذاته، بوسع فئة أخرى من المجتمع أن تسوق قائمة أخرى من الدلائل التي تثبت سلبيات تلك الإجراءات ومخاطرها على كليهما في آن. ليس هذا بيت القصيد، ونجاح أي منهما في ترجيح كفته لن يكون له أي تأثير إيجابي، كما نرى، على تطور الأداء الاقتصادي أو العمل السياسي في الساحة البحرينية.
باختصار، ليس الغرض من الإشارة إلى ما يدور اليوم من حوارات بشأن المواقع والفنادق الاصطفاف في أي من الخندقين، بقدر ما هو رفع علامة استفهام كبيرة تقول: إلى أين تتجه البحرين؟ وما هي طبيعة ومواصفات القوانين التي ستحكم مسيرة المجتمع البحريني ومؤسساته المختلفة في المرحلة المقبلة؟ الكل منا يدرك، وبشكل مسبق، أن كل ما يتمناه المواطن البحريني، هو أن تكون هذه الإجراءات، وأخرى غيرها التي من المتوقع أن نشهدها قريبا من وزارات أخرى، هي بمثابة مساحات متكاملة تتوزع بهارمونية متناسقة على لوحة استراتيجية تقود البحرين نحو هدف واضح المعالم محدد السمات، عوضا عن إنهاك تلك الاستراتيجية، هذا إن وجدت، ومعها المواطن واستهلاك طاقاتهما في اللهث وراء إجراءات آنية، ضيقة الأفق ذات طابع تكتيكي، تحاول إرضاء هذه الفئة أو تلك، أو كسب ود هذه المؤسسة أو تلك.
ما ينبغي أن يهيئ المواطن نفسه له، ونحن في لجة هذه الحوارات، هو أنه في المنعطفات التاريخية، كتلك التي يقف أمامها المجتمع البحريني اليوم، تبرز الحاجة إلى مخططات استراتيجية، قادرة على نقل ذلك المجتمع من الحالة التي يعيشها إلى أخرى أفضل وأكثر رقيا. وفي خضم هذا الانتقال الاستراتيجي من الطبيعي أن يكون هناك بعض الضحايا، لكن من الطبيعي أيضا أن تبرز قوى جديدة فتية لها مصلحة حقيقية في ذلك التغيير.
نستعيد هنا المشروع الاستراتيجي الإصلاحي الذي قاده جلالة الملك في مطلع هذه القرن، والذي أخذ بيد البحرين، في خطوة جريئة من أحضان قانون أمن الدولة الآسن، الذي كان متحكما في رقاب العباد، والمُصادِر لأبسط الحقوق الإنسانية، إلى فضاء الميثاق الوطني الرحب، ومن بعده مرحلة الدستور المترامية الأطراف من حيث العلاقة بين المواطن والسلطة. ذهب ضحية ذلك التحول الاستراتيجي فئات وقوى اجتماعية مسها التغيير، وألحق الأضرار بمصالحها، وقلص من سلطاتها المطلقة، ونفوذها غير المبرر، لكنه وبالقدر ذاته، أدخل إلى ساحة العمل السياسي البحرينية قوى جديدة، كان لها مصلحة مباشرة في ذلك التغيير، ولذلك لم يكن من المستغرب أن تناهض ذلك المشروع القوى الأولى، في حين تدعمه وتدافع عنه الثانية.
ربما تثار الكثير من الانتقادات بشأن هذا المشروع الإصلاحي، أو بعض التراجعات التي اعترت مسيرته على امتداد السنوات الثمان، لكن ليس هناك من يجرؤ على نفي آثاره الإيجابية على واقع العمل السياسي البحريني، وإن أي تراجع عن بعض مكوناته، لا يستطيع أن يتجاوز مجموعة استراتيجية من الخطوط الحمر التي باتت تحمي الدستور، ومعه آليات العمل السياسي في البحرين.
من هنا نستطيع أن نفهم حيرة المواطن وتساؤله، عن مغزى تلك الإجراءات بشأن المواقع والفنادق، وإلى أي مآل يمكنها أن تقود البحرين. وإلى أن يرى المواطن تلك الرؤية واضحة، ونقلها إلى حيز الواقع يجري بشفافية مطلقة، لا يملك نفسه من رفع علامة التساؤل الباحثة عن مصير البحرين ومستقبلها، من جهة، وخشيته -أي ذلك المواطن- من أن تكون الشيخة مي، صاحبة واحد من أهم المشروعات الثقافية التي عرفتها البحرين في تاريخها المعاصر، ضحية تصفية حسابات سياسية هي أبعد ما تكون عنها.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2419 - الإثنين 20 أبريل 2009م الموافق 24 ربيع الثاني 1430هـ