العدد 2419 - الإثنين 20 أبريل 2009م الموافق 24 ربيع الثاني 1430هـ

النهضة وأسطورة التحكم الكامل...(2)

هبة رؤوف عزت Heba.Raouf [at] alwasatnews.com

كاتبة مصرية

وعدت في المقال الماضي بالحديث عن شروط النهضة وتجاربها في دائرتي القوة العسكرية وسياسات العلم والتكنولوجيا.

لكن هذا لابد له من مقدمة تفكك ما هيمن على تصوراتنا عن النهضة من منظور غربي، في مجال العسكرية ومجال العلم، وهما أكبر أساطير الحداثة، لأنهما أداتا التحكم والهيمنة التي كانت هي الفكرة المركزية لمشروع الحداثة الغربية منذ القرن السادس عشر.

حين صعد مشروع الحداثة الغربية الذي سعى لتنحية الدين عن الحياة العامة والسياسية والعلمية - ولأسباب مفهومة في السياق الأوروبي- كان من ضمن مقوماته تحكيم العقل وسيطرة الإنسان على الطبيعة وعلى سير العلاقات الاجتماعية.

كانت المسيحية تقدم رؤية للدين تناقضت في كثير من الأحيان مع التقدم العلمي والاكتشافات التي هدمت مسلمات مثل انبساط الأرض، ودفع العلماء ثمنا فادحا على يد آباء الكنيسة الذين كانوا يريدون التحكم الكامل في الدين والسياسة، والدنيا والآخرة.

لكن هذه المؤسسة الدينية كانت أيضا تقوم على جمهور ارتضى أن يلعب لعبة التحكم هذه، فقبل أن يشتري صكوك الغفران من تلك الكنيسة ودخل في دائرة البحث عن سيطرة متوهمة على دنياه وآخرته، فمن يشتري صكوك الغفران شخصٌ أراد أن يتحكّم في الدنيا والدين، فيبدو مالكا لرضا الرب كي ترضى عنه-بذلك- الناس.

التحكم والسيطرة كانت الهدف الأساسي من العلمانية، فيذهب الرب إلى حيث شاء، وليهيمن الإنسان على مقاديره وعلى العالم. لكن المآل لم يكن أفضل حالا عن السابق، بل أسوأ. ظن أصحاب الحداثة أن العلم سيكشف المجهول ويفتح أفق ترويض الطبيعة التي كانت كوارثها تخيف البشر فيلجأون لآلهة ما، كي يحتموا بها من خوفهم. والحداثة وعدت بأن يهيمن الإنسان على الطبيعة فلا يحتاج إلى رب يلقي بالقرابين عند قدميه كي يحميه.

والحداثة قالت إن الدين هو مصدر الحروب والنزاعات وأن العقل البشري لو تحكم في مصير الإنسان سيعم السلام والهدوء، ووعدت بأن يطول عمر الإنسان وتتحقق له السعادة بتحريره من خيارات فرضها المجتمع الذي أعلت الحداثة من قيمة الفرد عليه ورفعته فوقه، أو بالأحرى: وضعته في مواجهته.

المدن الجديدة كانت وعدا بالتحرر من مجتمع الريف، والأسواق الجديدة وعدٌ بالتحرر من الفقر، والدولة الحديثة القومية وعدٌ بالأمن السياسي. كل هذه الوعود لم تتحقق. أو كي نكون أكثر دقة: تحقّقت لبعض النخب المحدودة وفئات بعينها، لكن الثمن الذي تم دفعه كان باهظا.

لم يتحقق وعد الهيمنة على الطبيعة بل نجح العلم بمهارة في أن يدمّر جزءا كبيرا منها بشكل صار يستعصي على الإصلاح، وأحزاب الخضر وأنصار البيئة لديهم الكثير من الأدبيات في هذا المضمار. وانتصرت الطبيعة على محاولات الترويض، وكوارثنا الطبيعية جزاء وفاقا لما كسبت أيدينا القرن الماضي، وما أفسدته التكنولوجيا وجرائم الشركات الصناعية عابرة القارات التي نجحت في تمرير مخالفاتها الصناعية ومخلفاتها الكيميائية في بلدان العالم النامي، لفقر قوانين حماية البيئة، لكنها نسيت أننا نعيش في عالم واحد ونظام بيئي واحد.

ولم يتحقق وعد السلام والأمن بفضّ النزاعات الدينية وفصلها عن المجال السياسي، فالجرائم التي ارتكبتها أوروبا منذ ذلك الحين على يد منظومة حروب الاستعمار حققت الأمن لأوروبا لكنها قلبت مجتمعات العالم الثالث بحروب إمبريالية. والولايات المتحدة الأميركية كان لها في كل عام حربٌ في مكان ما، وكذا القوى الاستعمارية الأوروبية التي لم تكف عن ممارسة الهيمنة والتسلط تحت مسميات كثيرة بعضها دبلوماسي وكثير منها حربي تحت مظلة المصالح القومية ثم تحت غطاء حلف الناتو.

ووعد تحقق الإنسان وتحرره لم يتحقق، ففي السوق المفتوحة هناك شروط للمنافسة والصعود، وقصة المليونير الذي بدأ فقيرا ثم جنى المجد من خلال السوق قصة لطيفة، لكن من عاش في أوروبا والولايات المتحدة يعلم جيدا من الذي يدخل إلى أكبر الجامعات ومن الذي يتحصل على أكبر المراكز، ويعلم البنية الطبقية ذات القفاز الناعم التي تتحكّم في غالبية الدوائر. ولدي قصص عن إقصاء بني جلدتهم من مناصب لأن أسماء يعرفها القارىء من الساسة تدخلت لتعيين شخص أو إقصاء آخر... حتى في الوزارات والأماكن الحكومية، وبخدع قانونية بسيطة.

أما وعد الحرية السياسية فقد تمت فيه الخديعة الأكبر، أو كما يسميها المفكر الفرنسي جال إيلول: «الوهم الديمقراطي»، فالإعلام يتحكم في العقول والجهل بما يتم باسم الشعوب يهيمن على الساحة إلا من رحم ربي من النخب المثقفة المعارضة وبعض دوائر اليسار الذي لا نتواصل معه في الغرب لأنه شيوعي ملحد، ونسينا مبدأ «خيارهم في الجاهلية...»، وأن الناس: معادن. أما تدخل الشركات الكبرى في السياسة وتوجيه وزارات الخارجية والدفاع ففيه كلام كثير لن أخوض فيه وإلا لن ينتهي المقال.

هل الغرب أحواله سيئة ونحن أحوالنا طيبة؟

بالقطع لا. لكن السؤال هو كيف ننهض على صورة خلاف صورة الغرب. كيف نصوغ رؤيتنا للعالم بمعايير ومقاييس ومؤشرات غير التي حكمت خيالنا وتصوراتنا كي يكون التجديد حقيقيا وأصيلا، وتفعيل شروط التقدم إنساني وعالمي.

أعتقد أن البداية تكون من رفض فكرة التحكم الكامل والاعتراف بأنها فشلت، لا الغرب تحكم في الإنسان بل تمردت روحه على قيود الفكر المادي، ولا تحكم في الطبيعة بل تحكم فينا لندفع نحن شعوب العالم الثالث فاتورة صناعته وتقدمه العلمي من دفن النفايات النووية في أراضينا للتجارة في الأعضاء التي تحكمها مافيا عالمية؛ للحروب التي تقع على أراضينا للهيمنة على الموارد والسيطرة على مفصلات العالم الاقتصادية... كل ما تحكّم فيه الغرب هو روحنا ومؤسساتنا التعليمية وخيالنا الفردي الذي يحلم بالحلم الأميركي، ولكنه لا يدرك إلا متأخرا أن هناك كوابيس كثيرة يحسبها الظمآن ماء.

هنا عندنا الكارثة أكبر، لأن العلمانية أتت بنظم استبدادية وليست نظم تزعم الديمقراطية، والعلم تم توظيفه لخدمة الأنظمة وأكثر الوزارات تقدما في العالم العربي من الناحية التكنولوجية هي وزارات الداخلية، والإنسان عندنا مسحوق على خط الطائفية والمذهبية، واستبعاد الدين مستحيل لتركيبة تلك المنطقة الثقافية مسلمين ومسيحيين لكن توظيفه لخدمة الاستبداد لا بد من وضع نهاية له أيضا، والسوق الاقتصادي كان طول الوقت تابعا تصيبه الكوارث ويتم تبديد المكاسب التي لا تصب في برامج التنمية، بل في الحسابات البنكية للنخب الحاكمة السياسية والاقتصادية بتنوع حسب كل بلد من المحيط للخليج.

لذا فإن تحرير الخيال من نهج التقدم الغربي واستقلال التفكير عن التجربة الغربية التي تم الترويج لفكرة أن ماضيها هو مستقبلنا غدا اليوم، خصوصا بعد الأزمة المالية التي ضربتنا باعتبارنا تابعين للاقتصاد الرأسمالي، هو المقدمة المطلوبة كي نفكّر في هدوء ونخرج من نزاعات العلمانية أم الدولة الدينية، الرأسمالية أم الاشتراكية أم القبيلة، المجتمع العضوي أم مجتمع الأفراد... لأنها كلها خيارات مستحيلة وعليلة وتحتاج لرؤى جديدة طازجة وبديلة.

التحكم الكامل مستحيل، لذا لابد من مساحات اليقين الديني، والفعل الاجتماعي والتداول السياسي.

الحاكم المستبد حاكمٌ يريد التحكم الكامل ويرفض التعددية وتقاسم السلطة، والسوق الرأسمالي سوق تحكم كامل لذا ينهار لأن الواقع لا يستجيب لحسابات التحكم الكامل، والسياسات البيئية الكارثية كانت نتاج عقلية التحكم الكامل التي رفضت الاعتراف بحدود قدرة العقل البشري وشروط التاريخ. هذا التحكم الكامل هو الذي يرفض التفاوض، والخيارات المتعددة، والحقوق المتراكبة، والتسويات اللازمة للاستمرار.

من يريد التحكم الكامل والحصول على كل شيء، في الغالب يخسر كل شيء... ولو بعد حين.

ويبقى محور النقاش: دور العسكر وسياسات العلم والتكنولوجيا ودورهما في نهضة مستقبلية أخرى... بدون هوس التحكم الكامل.

ونكمل الحديث...

إقرأ أيضا لـ "هبة رؤوف عزت"

العدد 2419 - الإثنين 20 أبريل 2009م الموافق 24 ربيع الثاني 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً