في هذا العصر الحارق والمحترق يجب أن نبحث عن مواقع اللقاء الإنساني، أن نبحث عن مواقع الجمال في كل مذهب وكل دين وكل طائفة وكل بلد وكل إنسان، عل مطر التسامح يغسلنا من أدران القطيعة، والاستئصال، واحتكار الحقيقة، وادعاء الألوهية في العمل السياسي. الجلوس تحت دوحة الإنسانية واحترام الآخر يقللان فينا الوقوف على أرصفة الشتيمة. في عالم الأيدي المتشققة والوجوه المتشققة والقلوب المتشققة، نحتاج إلى تسامح محمد "ص" على طريقة "وهل الدين إلا الحب" وسلام عيسى "ع".
يجب ألا نصاب بنرجسية السياسة أو عاجية الثقافة أو وهم القوة المفرطة... يجب أن نستفيد من بعضنا بعضا. وكل أمة لا تخلو من إيجابيات وسلبيات. أقول في السياسة، لا أحب سياسة إحراق المراحل. والسؤال: ما الحل؟ إذا كان الخيار إما هدنة وطنية داخلية نبحث فيها عن المشتركات القومية والشراكة الوطنية أو تفجير انقسامات داخلية في الأمة نأخذ الخيار الثاني. وهذا الحديث ينجر على كل الدول العربية.
أكثر الناس استفادوا من الابتعاد عن حرق المراحل هم اليهود وخصوصا المشروع الإسرائيلي، فقد اقتضى المشروع ثلاثة أو أربعة أجيال وأنجز نفسه، لأنه لم يعتمد سياسة حرق المراحل... هؤلاء في الباطل. فلماذا لا نتعاون كلنا في الحق في التنازلات المشتركة؟
الوطن تصنعه التنازلات المشتركة من السلطة والمعارضة، ولو من أجل إدراك المستقبل. المرونة في الموقف، تفهم بعضنا بعضا، الابتعاد عن المزايدات المتبادلة تجنبنا الكثير من الخسائر... يجب أن نبحث عن العشرة في المئة من إيجابيات بعضنا بعضا، ونغض الطرف عن بقية المساوئ. وعلى ذكر التركيز على الإيجابيات لابد من إنصاف بعضنا... وأهم مسألة؛ العمل على التنمية والإصلاح الاقتصادي الذي هو ضرورة للإصلاح السياسي والعكس بالعكس.
البعض كان يسألني معلقا على مقال الأمس؛ هل أنت ضد السياسة، ألا تعلم أبناءك السياسة؟ قلت له: أنا لست ضدها، ولكنها هي الخيار الثالث. أعلم ابني أهمية المعرفة والتعليم أولا، ومن ثم أهمية الاستقلال الاقتصادي ومن ثم خيار النظر إلى السياسة، بشرط ألا يحترق عقله وأصابعه فيها. أنا أبحث عن دولة الرفاهية، دولة التنمية... أريد بحرينا على طريقة اليابان أو ماليزيا أو سنغافورة، لا أريد بحرينا على طريقة مصر... حريات عامة بلا خبز، أو على طريقة اليمن، حرية أحزاب بلا رز، لا أريد سريلانكا بحرينية.
الناس إذا أمنت الخبز والكرامة نسيت التظاهرات أو الثورية، ويجب ألا أطلب ملائكة من أية سلطة... سلطة الدولة أو الشعب أو الدين... الميكافيلية مقسمة بيننا ولكن بنسب مختلفة، والقمح يتناوله الجميع بنسب مختلفة، تماما كما هو شأن الخبز الشعبي يأكله الجميع ولا أحد يخلو من هرمونات القمح.
عندما أقرأ تاريخ العراق الحديث وأنظر ما فعلته الأنظمة الثورية والقومية أترحم على الحكم الملكي، لذلك ينبغي أن نتصالح على القواسم المشتركة. وأقول ما قاله محمد الماغوط وهو يخاطب اللبنانيين "تمسكوا بما بين أيديكم من أطلال حرية عربية... تمسكوا بكعب حذاء الحرية المتبقي لكم فهو خشبة الخلاص". لا أبحث عن حرية بلاستيكية ولكن الحصول على حاء الحرية قد يقود إلى "الراء" و"الياء" وهكذا... الحل أن تعزز المعارضة في الناس شرعية السلطة ودقة رفع الشعارات والخطب، والحل أيضا أن تقنع سكين السلطة أن لحم المعارضة لا يؤكل نيئا ولا مطبوخا ولا مشويا، وأن توزيع لحم المعارضة في مطابخ البرلمان والشورى قد يشبع بعض النواب لكنه لن يلغي الجوع في الخارج بل سيكرس الأزمة.
لذلك، أعود فأقول؛ فلنبحث عن مواقع النور وإضاءات الخير في المعارضة والسلطة، والقواسم المشتركة أكبر بكثير من الفروقات، حتى لا يضيع الناس بين العجلتين فتستفرد الضباع البشرية بالكعكة والثمار. يسألني صاحبي عن الخير في الإنسان، فقلت له: أنا أبحث عن عقل مارتن لوثركنك الذي وظف أزمة امرأة سوداء مضطهدة في باص مورس عليها التمييز لأنها جلست في المقاعد الأمامية للبيض... أبحث عن عقل مارتن وليس عن عضلاته... عن سلاحه، عن وعيه لخدمة البيض والسود والوطن... أبحث عن عقل مارتن وليس عن عضلات محمد علي كلاي.
السياسة لا تأتي بالعضلات ولكن بالوعي، أبحث عن خامة الحريري، هل تصبح بحرينية ويمكن استنساخها، عن حريري البحرين الذي يرسل 35 ألف طالب من كل الطوائف إلى أكبر جامعات في الغرب؟ أبحث عن سيدة أعمال بحرينية تصبح بحجم إنسانية الراهبة تريزا التي شكلت راهبات المساعدة الخيرية وافتتحت أول نزل لمساعدة المحتضرين وأسست إخوان المساعدة الخيرية في 1963 التي بنت قرابة 100 منزل ومدرسة ومصح.
إذا، فلنبحث عن إضاءات بعضنا بعضا... نريد معرفة وخبزا وهما يقودان إلى الكرامة
إقرأ أيضا لـ "سيد ضياء الموسوي"العدد 1067 - الأحد 07 أغسطس 2005م الموافق 02 رجب 1426هـ