"قوى المعارضة العربية، غير قادرة على تطوير أدواتها السياسية أو الإعلامية، وهي بذلك عاجزة عن استغلال فرص الإصلاح المتاحة اليوم، والتي قد تختفي غدا، أو بعد غد".
المعارضة كمفهوم، هي ليست وليدة هدف إجرائي مرحلي، بل هي ذلك الجهاز الذي يقوم بتوظيف حيوية الشعوب، نحو تحقيق استراتيجياتها الكبرى، هذه الاستراتيجيات يعبر عنها في المفهوم السياسي الحديث بـ "مصلحة المجتمع". بمعنى، أن تبني أي منظومة معارضة، لأي خيار ما، كهدف نهائي، هو بالضرورة تحديد نهاية زمنية لها، فمتى تحقق الهدف الذي جعلت منه سبب وجودها، أصبح وجود المعارضة "غير شرعي"!
هذا ما أصفه سياسيا بتوصيف "سياسات الوقوع في الزاويا الحرجة"، وهو ما ينعكس على تفاعل مجموعات المعارضة العربية سياسيا وإعلاميا، إذ يكون على الدوام في صورة "فعل"، أو "ردة فعل"، ومجموعات المعارضة في الخليج تقع في هذا المطب تحديدا عبر استمراريتها في ارتكاب أخطائها التاريخية نفسها، إذ تفتقد إلى محور مهم في العمل السياسي الحديث، وهو "السياسة الوقائية ضد الحرج".
بمعنى، أن مجموعات المعارضة السياسية في الخليج، إذا ما صيرت أهدافها السياسية باعتبارها مواقع استراتيجية ثابتة، وكأهداف نهائية جامدة، فإنها تعمل في زوايا ضيقة، قد تخنقها، أو هي فعلا تجعلها بين يدي السلطة "الدولة" سهلة التحجيم والتحديد.
نحن في الإعلام والصحافة نحاول قدر المستطاع ألا نضع أجندات خاصة، تتصف بالنهائية والجمود، بل نحاول قدر المستطاع أن ترتبط قضايانا اليومية بالصالح العام، وبتفعيل الحكم الرشيد، أو الراشد، وهذا تحديدا ما يعطي الصحافة ديناميكية خاصة فاعلة ومستمرة. هكذا نريد للإعلام أن يكون، كوعاء كبير، يحتضن حراك المجتمع ككل.
إن مجموعات المعارضة التي تعتمد على سياسة الأبواب المفتوحة، تستطيع التحكم بالصراعات السياسية وتحريكها تبعا لمصالحها الذاتية، وفي التوقيت الذي تختاره بإرادتها، من دون أن تفرض عليها السلطة "الدولة" ما تريد وتشاء أجندتها السياسية الخاصة، وقتما تريد، كيفما تريد.
الرؤية الإعلامية:
سأحاول تفسير ما ذهبت له أعلاه، من منظور إعلامي. السؤال، ماذا نعني بالسياسة الإعلامية؟ وتحديدا، ما هو تنظير الأفق الإعلامي للمجموعات الاجتماعية المنظمة. هناك خلط رهيب، في تحديد ماهية التأسيس للخطاب الإعلامي المعارض. فالشائع، هو أن جماعات المعارضة العربية دائما ما تحاول تأسيس الخطاب الإعلامي عبر ترويج أهدافها "الآنية" والمعلنة، كتحديد الخطاب في القضايا الاعتيادية المطروحة لجميع المعارضات العربية، "الدساتير"، "الحفاظ على البيئة"، "محاربة البطالة"، "محاربة الفقر"، "ندرة الوظائف". فيكون خطابها محصورا ومحددا، في زاوية واحدة منفردة وحادة.
من المفترض أن تقوم مجموعات المعارضة العربية بتأثيث خطابها الإعلامي باستراتيجياتها الكبرى، والتي لابد ان تتسم بمساحات حرة من الحوار والتجاذب السياسي الطويل الأمد، وهو ما تختلف فيه على غالبية طبيعة كل معارضة عن الأخرى.
هذا ما يجعل من المعارضة كمفهوم، حقلا محتضنا للاتصال الاجتماعي القائم، بمعنى آخر، أنها ستكون محرك الاتصال الإعلامي المجتمعي. أي فاعلة بخطابها. منطلقة من خطاب ذي مستوى معرفي أكثر طلاقة، وبالتالي ستكون أكثر قدرة على التعامل مع الإشكالات التي تفتعلها السلطة بين فترة وأخرى. فكلما حاولت السلطة أن تحد من قوة المعارضة حيال هدف ما، تحولت المعارضة إلى هدف آخر. تتغير الأهداف، وتبقى الاستراتيجية ثابتة، سواء إعلاميا، أو سياسيا.
سأورد للقارئ تعريف اليونسكو للسياسة الإعلامية، "السياسة الإعلامية، هي مجموعة المبادئ والمعايير والقواعد التي تحكم وتوجه سلوك الانظمة الإعلامية، التي عادة تشتق من شروط الايديولوجيا السياسية والقيم التي ترتكز عليها في بلد ما".
نستفيد من هذه الرؤية، أن السياسة الإعلامية هي ذلك التنظيم الخاص للاستراتيجية العامة السياسية لأي بنية اجتماعية ما. وهناك الكثير من الأبعاد التي تتداخل في صوغ مفهوم السياسة الإعلامية مثل / النشاط الإعلامي، وطبيعة الرسالة الإعلامية، والتأثير على السلوك، نتائج التأثير على السلوك، علاقة الحقل الإعلامي بباقي الحقول.
ما أود التركيز عليه في هذا المقال هو أنني أزعم، أن السياسات الإعلامية للنظم المعارضة العربية، مصابة بداء الاهتمام بالأهداف، التي تمثل "الخاص" في مقابل الاستراتيجيات "العام".
أحاول جاهدا أن ألفت الانتباه، إلى أن أية منظومة سياسية محايدة أو معارضة، لابد أن تحتوي في أجندتها السياسية على "عام" استراتيجي، ويتمثل في الغالبية، بمفهوم "مصلحة المجتمع"، وعلى "خاص"، وهو عبارة عن الأهداف الإجرائية، غالبا ما ترتبط بأولويات الأجندة الاجتماعية.
المشكلة، أن تجمعات المعارضة العربية، دائما ما تتكلس أمام الأهداف الآنية في صراعاتها السياسية، لذلك تجد سياساتهم الإعلامية. عاجزة عن إنتاج خطاب موازي وقادر على اللعب من السلطة "الدولة" الحديثة في تجاذباتها السياسية من حقل لآخر بدهاء وتطور.
لنأخذ مثالا بسيطا، حينما تركز معارضة ما، على هدف بارز، وهو الحد من نسبة البطالة، فإنها تجعل من إشكال الهدف الإجرائي "الحد من البطالة" استراتيجية رئيسية وشبه نهائية، وتجعل من الهدف أفقا عديم الحراك، فإما أن يتحقق الهدف، وإما الانتظار. وحين تقوم السلطة - بدهاء - بنقل الصراع إلى بؤرة أو زاوية أخرى في معالجتها للبطالة كاقتراح "مشروع ضخم للتوظيف"، ويكون هذا المشروع دون الطموحات، فإن الناتج، هو أن السياسة الإعلامية للمعارضة على "البطالة" تتجمد، وتصاب بالشلل.
هذه الحال، ليست صحية البتة، إذ تتوقف إنتاجية الاستراتيجيات في مقاربة سياسية وإعلامية لهدف ما يخضع للزمان والمكان، والواجب أن تكون في موضع متحرك وفاعل، وديناميكي التحول، إن مفهوم الاستراتيجية أكثر تعقيدا مما تعتقد بعض الرموز السياسية. هي حال من اللا هدوء أو الركود. إن ما يصيبه الهدوء، هي إحدى التكتيكات المتبعة في تنفيذ الاستراتيجية البعيدة المدى، إذ لابد من تغيير أي تكتيك سياسي أو إعلامي يصيبه العطب.
المأخوذ من تعريف اليونسكو، ان السياسات الإعلامية دائما ما تتفق مع الاستراتيجيات، بخلاف ما تذهب له الظواهر الإجرائية لتجمعات المعارضة العربية. لابد ان تلتزم السياسة الإعلامية بالاستراتيجيات، وعليها أن تتسم بالمرونة والقدرة على التعديل المستمر للأهداف. لابد للخطاب الإعلامي المعارض أن يلم بالتركيبة الاجتماعية بما فيها من تجاذبات وتغايرات متحركة. فالإعلام المعارض هو ابن الشارع، ابن اهتمامات الأفراد. حين نهتم بمشروع متكامل في حجم "معارضة سياسية"، فإننا لابد أن نتطور بأدوات ومناورات السلطة أنفسها برؤيتها الجديدة. تطورت السلطة؟، فلتتطور المعارضة، تغولت السلطة؟، فلتتغول المعارضة. والمقصود أن تحاول نظم المعارضة العربية الاصطفاف في خندق ما يسميه رامونه "رئيس تحرير الليموند الفرنسية" بـ "السلطة الخامسة"، بمعنى أن تلعب المعارضة أدوارا أشبه بمجموعات الضغط المتنوعة الأهداف، ذات الاستراتيجية الثابتة "مصلحة المجتمع"، إذ إن تكتلات المعارضة العربية، مطالبة بالتكوثر في صيغ أكثر قابلية للحراك، عبر استنطاق البيئة المجتمعية في سياق قوي وقادر على الإنتاج والمحاججة بأدوات حديثة، توازي أدوات السلطة الحديثة، بل تتفوق عليها. ولعل هذا هو المطلب الرئيسي تحديدا.
* كاتب بحريني
إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"العدد 1067 - الأحد 07 أغسطس 2005م الموافق 02 رجب 1426هـ