العدد 1067 - الأحد 07 أغسطس 2005م الموافق 02 رجب 1426هـ

"الأخ الأكبر"

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

الإجراءات الأمنية التي تتخذها الدول الأوروبية لمكافحة ما تسميه شبكات الإرهاب طرحت أسئلة سياسية عن مدى استعداد دول القارة على مواجهة حالات مشابهة لتلك الضربات التي وقعت في محطات القطار والأنفاق في مدريد ولندن. فالإجراءات كشفت عن وجود ثغرات أمنية من السهل اختراقها في أكثر من مكان وزمان. وهذه الثغرات الأمنية كشفت بدورها عن نوع من الخلل الداخلي الذي يكشف عن ضعف في الأبنية الاجتماعية والاقتصادية وقواعد العلاقات المتبعة بين الدولة ورعاياها وتحديدا المجموعات الأجنبية المقيمة أو تلك المتجنسة حديثا.

الأمن كشف السياسة وطرح سلسلة تحديات طاولت الكثير من القوانين والتقاليد والأعراف. فالدول اضطرت إلى التخلي عن ما وصفته بمبادئ التسامح والانفتاح واحترام التنوع والتعدد وبدأت تتحدث عن قيم خاصة ومبادئ اجتماعية عامة يجب على المقيم والمتجنس وحتى الزائر الالتزام بها أو على الأقل عدم معاكستها.

هذا الكلام عن خصوصية ثقافية في نمط الحياة وأسلوب العيش وصولا إلى المسلكيات والعلاقات يعيد إنتاج سياسة داخلية ضيقة الأفق تتمحور على هوية ذاتية لا تتسع للملايين من المقيمين في القارة. وهذا الجديد في مسألة الإجراءات الأمنية يفتح الباب على فرضيات كثيرة تهدد أسس الدول الأوروبية التي تميزت عن غيرها بسياسة داخلية تحترم الإنسان الذي يعيش ضمن دائرة حدودها الجغرافية. فالتركيز على الذات "القومية" والهوية "الثقافية" والخصوصية "الاجتماعية" كلها مفاتيح ايديولوجية لسياسة محتملة تخطط أو تفكر بها بعض دول المجموعة الأوروبية. وهذا يعني أن الإجراءات القانونية التي أقدمت عليها عواصم أوروبا الغربية باسم الأمن وحماية المواطن من التهديدات الخارجية لها طبيعة سياسية في النهاية وتهدف إلى المزيد من التشدد الداخلي ومراقبة القاطنين من مواطنين ومتجنسين.

المنحى المذكور إذا تطور واتسع نطاقه يمكن أن يؤدي في المستقبل إلى نهوض مؤسسات رسمية تميل إلى انتهاج سياسة تغليب الأمن على الحريات العامة وتشديد قبضة الدولة على المجتمع خوفا عليه من "الأجانب". والإجراءات القانونية "الأمنية - السياسية" التي اضطر طوني بلير إلى اتخاذها تسير في هذا الاتجاه الذي يميل إلى تعزيز قبضة الدولة على حساب حريات المجتمع.

وبسبب المخاطر الأمنية والمخاوف من "الغرباء" تبدو المجتمعات الأوروبية قابلة للتضحية بالكثير من المكتسبات التي حققتها خلال عقود لمصلحة إجراءات تحد كثيرا من حرياتها وانفتاحها وتسامحها وتنوعها. فالهواجس الأمنية تبدو أقوى من الرغبات المتصلة بحرية الأفراد وحق الجماعات في اختيار أسلوب الحياة الذي تريد.

مثلا، البريطاني المعروف بحرصه الشديد على خصوصيته وتمسكه بحقوقه ورفضه لتدخل الدولة في حياته العامة بات الآن يميل إلى التنازل عن بعض تلك المكاسب لمصلحة إجراءات تتربص به وبتحركاته مقابل حماية الدولة لأمنة الشخصي وضمان مصالحه ومعاشه.

الآن أصبح الكثير من البريطانيين يطالبون الدولة بالمزيد من التشدد والمراقبة والملاحقة والتفتيش والمداهمة واستخدام كل الوسائل المتاحة بما فيها كاميرات ترصد الشوارع والساحات والمحطات وأمكنة العمل والمؤسسات والمتنزهات والمحطات والمنازل بعد أن كان قبل هجمات 7/7 "7 يوليو/ تموز" يرفض تدخل الدولة في أبسط شئون حياته في اعتبار أن ذاك التدخل يهدد حريته الشخصية وخصوصية مسلكه اليومي.

الإجراءات القانونية التي اتخذتها المجموعة الأوروبية "والآن بريطانيا" خطيرة جدا في أبعادها الاجتماعية والثقافية والدستورية المستقبلية... ومخاطرها لا تقتصر على "الأجانب" و"الغرباء" والجاليات المقيمة والمتجنسة حديثا وإنما قد تتسع غدا مستخدمة الذرائع نفسها لتسيطر الدولة على مساحات واسعة من الحريات العامة للمجتمعات الأوروبية نفسها.

مثل هذه الإجراءات إذا تطورت وتجذرت ستعيد إنتاج علاقات داخلية تعزز من قبضة الدولة وتشددها وتزيد من فرص تقويض تلك المكتسبات لمصلحة نظرية "الأخ الأكبر" التي ظهرت في برنامج تلفزيوني وأساسها الفلسفي رصد تحركات الناس وتصرفاتهم أو تشبه إلى حد كبير ما ذهب إليه جورج أورويل في روايته "مزرعة الحيوانات"... وهي تتناول في جوهرها سلبيات الدولة الكلية والشمولية

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1067 - الأحد 07 أغسطس 2005م الموافق 02 رجب 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً