في الشهور الأولى من هذا العام انتشرت شعارات على عدد من الدوارات الرئيسية تقول: "البحرين أولا"، وكان ذلك على ما يبدو ردا على الشعار الذي رفعته الجمعيات السياسية المقاطعة "الدستور أولا". في مايو / ايار كنت زرت الأردن للمشاركة في منتدى "دافوس" على البحر الميت، وأثار انتباهي انتشار شعار "الأردن أولا" على الشوارع العامة أيضا، وبدا لي أن من نشر شعار "البحرين أولا" لابد انه كان في الأردن ورأى الشعار، أو أن المستشار الذي اقترح الفكرة له علاقة بالأردن.
على أن هذا الشعار بدأ ينتشر في أماكن أخرى، وفي الأيام الأخيرة في سورية، إذ يرتفع شعار "سورية أولا"، ردا على السياسة الرسمية التي يطرحها حزب البعث، وهي "الوحدة العربية" اولا.
وقبل كل هذه البلدان كانت مصر السادات طرحت الشعار ذاته "مصر أولا"، واعتبرت الحكومة المصرية أنها ضحت كثيرا من أجل العرب ودخلت الحروب وخسرت الكثير من شبابها وأراضيها من أجل شعار جمال عبدالناصر الذي يمكن اختصاره في "العرب أولا".
التنازل عن البعد العربي ربما بدأ في مصر، ولكنه أصبح الآن سمة تميز الأنظمة العربية التي فشلت في تحقيق الوحدة العربية وفشلت في تحقيق التنمية الاقتصادية وفشلت في تحقيق الديمقراطية، وهي تسعى حاليا لطرح مفهوم آخر "ربما" يعوضها عن الخسارات المتتالية.
على أن هذا الشعار الجديد فاقد للمعنى المتطور، فالبلدان حاليا تعرف أنها لا تستطيع أن تقول ان بلادها أولا، لأن مثل هذا الشعار لو طبق في أوروبا لتم إلغاء الاتحاد الأوروبي، ولو طبق في الولايات المتحدة الأميركية لتم إلغاء الاتفاقات الاقتصادية مع كندا والمكسيك، لأن جميع هذه الاتفاقات تطرح أن "إنسان" تلك المنطقة أولا. ولأن الإنسان أولا فإن على الدول الأوروبية أن تسهل تنقلاته وحياته وأن توفر له كل ما يحتاج إليه من حقوق اجتماعية واقتصادية ومدنية وسياسية لكي يستفيد من كل ما توفره الإطارات المتحررة التي تجمع عددا من البلدان ضمن اتفاقات تكاملية على جميع المستويات، بمعنى آخر فان الهدف الاسمى هو المواطن - الانسان.
إن الشعار المطروح في عدد من البلدان يعبر عن ضيق أفق حتى لو كان قد طرح على اساس حسن النية. فهو قد يفهم على أساس تعزيز المشاعر التي تحث على عدم الاكتراث بالآخرين. كما أن الشعار يوحي في بلداننا بأن "الدولة أولا"، لأن البحرين، او سورية، او الاردن، او مصر، الخ، لها سيادة تتمثل في "الدولة"... وعندما يرفع مثل هذا الشعار في بلداننا فانه يوحي بأن "الدولة أولا"، وذلك يعني تعزيز النزعات التسلطية الداعية إلى إطلاق يد الدولة لتفعل ما تشاء بذريعة رفع شأن الوطن.
حاليا تفتقر البلدان العربية الى انموذج يتخطى الفهم التقليدي للوطن. فالوطن هو الدولة وهو السلطة... أما المواطن فهو الضحية، او الجانب الاضعف في المعادلة والذي يمكن التضحية بحقوقه، تماما كما فعلت البلدان العربية خلال العقود الستة الماضية.
إن المفترض أن نعود إلى أساس الفكر الإنساني الحر الذي يطرح الإنسان محورا لكل شيء ... فالإنسان هو محور للتنمية الاقتصادية وهو الغاية منها، والإنسان هو محور الحرية السياسية وهو الغاية منها، والإنسان خلقه الله ليكون خليفته في الأرض وليستفيد من كل ما خلقه الله من أجل إعمار الأرض وإرساء العدل والإحسان بين الجميع... فالإنسان أولا وأخيرا، وما دون ذلك تفاصيل تتبع الإنسان ويتم تسخيرها من أجل إسعاده
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 1066 - السبت 06 أغسطس 2005م الموافق 01 رجب 1426هـ