ابتداء لابد من التأكيد ان الضرائب كانت في الأصل تعتبر جباية يفرضها الحاكم على رعيته لتدخل خزينته الخاصة من دون ان يسأله عنها أحد. وقد تطورت وظيفة الضرائب لاحقا لتمثل أحد مصادر دخل الخزينة العامة بهدف الانفاق على الخدمات العامة كالرعاية الصحية والتعليم وانشاء الطرق والسكك الحديد وغيرها. بعد ذلك تطور دور الضرائب لتؤدي وظائف جديدة، إذ باتت تركز على الجوانب التنموية والاجتماعية، فهي باتت تعرف كاحدى أدوات السياسة النقدية التي تستخدم تارة في حفز النمو الاقتصادي أو كبح جماح التضخم أو تحقيق العدالة الاجتماعية. لذلك، فإننا عندما نتحدث اليوم عن احتمالات فرض الضرائب في دول المجلس، علينا ان نحدد أولا الأهداف التنموية والاجتماعية لفرض الضرائب ويجب عدم النظر إليها كأداة لزيادة الايرادات المالية. ويذكر أن صندوق النقد الدولي كان اقترح أن تقوم دول مجلس التعاون الخليجي بفرض عدة أنواع من الضرائب التي يمكن أن تعزز الايرادات غير النفطية، منها ضريبة دخل الفرد وضريبة الدخل المجمعة وضريبة الاستهلاك، وضريبة القيمة المضافة وضريبة الرسوم علاوة على إلغاء اي استثناء ضريبي على المشروعات وفرض رسوم عادلة على الخدمات العامة كالكهرباء والماء والصرف الصحي. الا ان تقرير الصندوق يعيد للتأكيد أن فرض مثل هذه الضرائب يجب ان يكون بضمن مجموعة من الاجراءات والأدوات الهادفة الى تحقيق التنمية المستدامة والاستقرار الاقتصادي في دول المجلس.
وقد أثار التقرير الصادر عن صندوق النقد الدولي بعنوان: "استراتيجية تحقيق التنمية المستدامة والاستقرار الاقتصادي الشامل" عددا من الموضوعات المهمة، إذ يبدأ بشرح مفهوم الموازنة واعتماد الحسابات الخارجية "xternal Accounts" لدول مجلس التعاون على احتياطياتها من النفط والغاز على رغم محاولاتها الرامية الى تنويع مصادر الدخل إذ أدت صدمة اسعار النفط عامي 98 و99 الى إحداث خلل في موازنات تلك الدول، ثم يشير الى أن النمو في دول مجلس التعاون يعتمد اعتمادا أساسيا على الانفاق الحكومي أكثر من اعتماده على مشاركة القطاع الخاص. ويقول التقرير انه مع نمو السكان بنسبة 3,5 في المئة سنويا، فإن اي تحول في أسعار النفط نحو الانخفاض يمكن أن يؤدي الى حدوث بطالة كبيرة في تلك الدول، ولقد أدركت السلطات المعنية في دول الخليج الحاجة إلى إعادة هيكلة بناها الاقتصادية بهدف تخفيف الاعتماد على النفط وخلق فرص عمل اضافية للقوى العاملة لديها في القطاع الخاص وتشتمل خطط تلك السلطات على تعزيز أوضاعها المالية والالتزام بسياسات مالية متطورة والتقليل من دور القطاع العام وادخال تعديلات على نظام الحوافز لتعزيز مشاركة القطاع الخاص وخفض الدعم الحكومي، وانتهاج سياسة اصلاحية لايجاد نظام فعال وقادر على المنافسة على صعيد الاستثمارات العامة والخاصة وبين المستثمرين المحليين والخارجيين ورفع كفاءة النظام المالي وسوق المال وأخيرا ايجاد سوق عمالية منافسة.
ان الاوضاع الاقتصادية في دول المجلس توضح ان ارتفاع أسعار النفط خلال الأعوام الماضية ادى الى تحقيق فوائض مالية ملموسة في موازنات الدول الخليجية النفطية وخصوصا ان هذه الدول كانت وضعت موازنتها على أساس الأسعار المتدنية. ان قطاع النفط يعد بمثابة القطاع القائد والمحرك لباقي قطاعات الاقتصاد القومي إذ تبلغ مساهمته نحو 30 في المئة من اجمالي الناتج المحلي لدول المجلس ونحو 75 في المئة من ايرادات الموازنة وما يتراوح بين 80 و90 في المئة من عائدات التصدير. كما ان الزيادة الكبيرة في اسعار النفط كانت لها الانعكاسات الايجابية على الأوضاع الاقتصادية في دول مجلس التعاون الخليجي.
وعلى رغم جميع هذه المؤشرات الاقتصادية الايجابية - على صعيد الاقتصاد الكلي - فإن القطاعات غير النفطية لاتزال تعاني من مشكلات عدة، كالتقلبات الحادة في أسواق الأسهم الخليجية، وتراجع حجم النشاط التجاري المحلي بما يتراوح ما بين 5 و15 في المئة، وحدة المنافسة أمام قطاعات الانشاءات الوطنية.
والسؤال الذي يطرح نفسه، هو: لماذا لا يجد الحديث عن انتعاش الأوضاع الاقتصادية الذي تقوده زيادة الايرادات الحكومية طريقه الى القطاعات الاقتصادية الأخرى، وكأنما هناك انفصام بين روابط آليات عمل القطاعات الاقتصادية. اننا نعتقد ان احد الأسباب المهمة لهذه الظاهرة هو غياب ادوار السياسة النقدية ومنها السياسات الضريبية التي تسهم في إعادة توجيه الموارد المالية نحو قطاعات معينة أو تخلق الحوافز لزيادة الاستثمارات في قطاعات أخرى.
وتتفاقم أبعاد غياب السياسات النقدية المتنوعة لدى دول المجلس عند تراجع ايرادات النفط وبالتالي الموازنة العامة، وتجبر هذه الموازنات على صرف جل ما في خزائنها على أوجه الصرف المتكررة أي الانفاق الاستهلاكي "رواتب الموظفين، الانفاق على المرافق الخدمية كالصحة والتعليم، وصيانة المرافق القائمة"، أكثر من الانفاق الاستثماري. أي ان زيادة الايرادات النفطية تصب في تقليص العجز في الموازنة الحكومية. وصحيح انها تتيح تمويل عدد من المشروعات الجديدة الا أن حجمها وديمومتها لا تكفي لوحدها لتحريك النشاط في القطاعات الاخرى.
اذا، غياب السياسات النقدية ومنها الضريبية يكشف عن خلل اساسي في هيكلة الموازنات الحكومية لدول المجلس. ويتضح لنا هنا ان الايرادات النفطية تمثل في المعدل 80 في المئة من اجمالي الايرادات الحكومية لهذه الدول. وتتراوح نسبة الايرادات النفطية من اجمالي الايرادات ما بين 56 في المئة للبحرين "وهي أدنى نسبة" و88 في المئة للكويت "وهي أعلى نسبة". اما في جانب المصروفات، فإن المصروفات المتكررة التي تذهب إلى المرافق العامة على هيئة رواتب ومصروفات صيانة ومدفوعات الديون المتراكمة فإنها تبلغ في المعدل 87 في المئة من اجمالي مصروفات الموازنات الحكومية. وتتراوح هذه النسبة ما بين 78 في المئة لسلطنة عمان "وهي أدنى نسبة" و92 في المئة للكويت "وهي أعلى نسبة".
ويتضح من الارقام الواردة أعلاه أن الموازنات العامة التي طال اعتمادها على ريع النفط الخام، هي امتداد لدور النفط الخام في الاقتصاد، بل إن هذه الموازنات هي التي يصل من خلالها إلى الاقتصاد والمجتمع معظم تأثير إنتاج النفط الخام وتصديره.
وجدير بالتأكيد أن تأثير قطاع إنتاج النفط الخام غير المباشر، من خلال الدور الذي تقوم به الموازنات العامة، المعتمدة بدورها على ريعه، أكبر كثيرا - كما سبقت الإشارة - من الدور الذي يقوم به قطاع إنتاج وتصدير النفط الخام مباشرة في تحريك الاقتصاد. وبذلك فإن الموازنات العامة في الدول التي طال اعتمادها على ريع النفط الخام، ليست مجرد أداة من أدوات السياسة المالية يعول عليها في ضبط الاقتصاد وتوجيه النشاطات، وإنما هي المرتكز الذي تبدأ منه حركة النشاطات الاقتصادية وتعتمد عليه الدورة الاقتصادية
إقرأ أيضا لـ "علياء علي"العدد 1065 - الجمعة 05 أغسطس 2005م الموافق 29 جمادى الآخرة 1426هـ