لم يبق من "الخاتمية" الا اسمها ومن الطبقة السياسية التي رافقتها الا بعض أدبياتها على رغم بقاء الرئيس محمد خاتمي علما مرفرفا في سماء جمهورية الإصلاح التي كرس ثقافتها حتى لم يعد باستطاعة أحد العودة عنها حتى لو أراد.
ثماني سنوات مليئة بحلو الملفات ومرها عاشها الشعب الإيراني في ظل بحر متلاطم من الحوادث الحية والشفافة الشاهدة والشهيدة، الأربع الأولى برزت وكأنها سمان على الإصلاحيين والإصلاحات فيما بدت الثانية عجافا عليهم وعليها، ورد إليها الرئيس المثقف "كرأس" من دون جسم وخرج منها "وحيدا" كما لو أنه لم يبق على أحد ممن رافقوه "راضيا" عن مسيرته "الخاتمية".
قال عنه الإصلاحيون إنه "فشل" في تشكيل جبهة الإصلاحات ناهيك عن قيادتها!
وذهب المحافظون بعيدا في "مدحه" وان في نهاية عهده حتى قالوا إن أفضل ما قدمه انه تجاوز تجار الإصلاحات وبقي "محافظا" على الأصول بينما كان رفاقه والمتدثرون بعباءته يخططون للانقلاب عليها وتجاوزه هو أيضا!
لكن أفضل وأنبل ما سيبقى من الرجل أنه كان رمزا للصبر على الأذى حتى وان جاء من ذوي القربى ومعلما في أدب الحوار وتحمل الآخر حتى لو كان متآمرا عليه.
فقد أرسى على عهده ثقافة القانون التي ظل يكافح شعب إيران من أجلها لمدة تزيد على 150 عاما الأخيرة، كما أشاع حس المسئولية وثقافة التسامح وتحمل الآخر وهو يتربع على كرسي السياسة الخشن والجاف حتى العظم!
يغادر خاتمي اليوم مقعد السياسة عائدا إلى الحضن الدافئ الذي يواكبه دوما حتى صار جزاء لا يتجزأ من سمات شخصيته الأساسية أي بيت الثقافة والفكر، مسلما دفة القيادة التنفيذية إلى رجل من "جنس" آخر وصفه حواريوه بانه من جنس الناس فهل تصدق نبوءتهم؟!
ليسوا "محافظين" تقليديين حتى تستنفر منهم النخب المثقفة والليبرالية في البلاد، ولا هم من ينطبق عليهم وصفة "الإصلاحيين" التي تعارفت عليها أدبيات الرئيس السابق حتى يلقوا اصطفاف الطبقة السياسية التقليدية في البلاد لهم أو عليهم.
هكذا ستكون حكومة الرئيس الجديد محمود أحمدي نجاد، لا هي إلى أولئك ولا هي إلى هؤلاء بل منزلة بين المنزلتين كما يصفها البعض فيما يفضل حواريوه أن يصفوها بحكومة الشعب المليونية!
خالية تماما من الرموز والأقطاب، وتكاد تخلو حتى من المشهور، والذريعة أن الناس جربت حكم اليسار كما حكم اليمين، المحافظين كما الاصلاحيين وانه آن الأوان لتجرب طبقة الخبراء و"الحياديين"!.
تجربة حكم الرئيس أحمدي نجاد ستكون من نوع جديد بالتأكيد امتيازها الأساس سيكون انها مدعومة بأركان جمهورية البنيان المرصوص وبالكتل الجماهيرية الكبرى كما يفترض وأن لا عداوات حزبية أو فئوية بعينها ستعرقل لها مشروعات عملها المرجوة من عامة الناس بفارغ الصبر واليقين!
أول تجاربها في النجاح أو الفشل سيكون الملف النووي بكل تعقيداته وحساسيته الداخلية والاقليمية والدولية، وفي ذلك فليتنافس الخيرون من الخبراء والتقنيون في ظل اجماع وطني فريد وحكمة ودراية دبلوماسية ورثها الوزراء والعاملون الجدد.
وثاني امتحاناتها سيكون الوضع الاقتصادي الذي كان السبب في ذرائع صعودها إلى السلطة كما سيكون السبب الأساسي في التجديد لها إن هي قدمت أفضل ما عندها لنقل الكتل الجماهيرية من "جنس الناس" إلى مستويات أعلى من الرفاهية والتقدم وبالعدالة الموعودة.
دورة جديدة إذا من الاختبار، اختبار معايير جديدة في الاداء يقولون إنها لا صلة لها بالأطر التقليدية التي كانت معتمدة لمن يطلق عليهم بالمحافظين أو الإصلاحيين.
العيون والأبصار إذا ستكون شاخصة إلى فريق العمل الجديد الذي يقول صراحة انه من جنس آخر غير جنس الطبقة السياسية التقليدية المعروفة التي أسقطها في الانتخابات الرئاسية - وبالتالي فإن من سيعطي شهادة النجاح والفشل سيكون هذه المرة هم الناس وليس الأحزاب والاجنحة السياسية - ما يعني أن فريق العمل الجديد سيكون وجها لوجه أمام الناس تماما كما يفترض ان تكون الأمور كذلك لأن من يريد أن يكون من جنس الناس لابد أن ينتظر محاسبة الناس... كل الناس!
هل نحن إذا أمام أدبيات جديدة في الحكم كما في ممارسة السياسة بشكل عام في إيران؟!
أعتقد، نعم، لكن ذلك لن يعني تحولات كبيرة في السياسات العامة، فالسياسات العامة في إيران ترسم في مكان آخر غير الحكومة والرئاسة، وقد دونت مساراتها الرئيسية لمدة العشرين عاما المقبلة بما يشبه الاجماع الوطني المتمثل في مجلس تشخيص مصلحة النظام.
غير أن طرق الوصول إلى الأهداف المرجوة سيرسمها بلا شك فريق العمل الحكومي الجديد، وهو الفريق الذي قال صراحة اثناء حملته الانتخابية إنه لم يكن راضيا عن اداء الحكومات السابقة ووجه انتقادات لاذعة إليها إن في المجال الداخلي أو في المجال الخارجي، وقد وضع على عاتقه مهمة رئيسية في الداخل هي مهمة مكافحة الفساد والفقر والتمييز بين المواطنين في الإدارة كما في توزيع الثروة إضافة إلى مكافحة الميوعة في الثقافة كما في الاجتماع!
هذا فيما وضع على صدر جدول اعماله في المجال الخارجي أن يضع حدا لما يسميه بالتردد وعدم الحزم أو التساهل مع الدوائر الغربية في مجال احقاق الحقوق الوطنية والقومية عموما من جانب فريق التفاوض والدبلوماسية السابق على الحكومة الجديدة.
فريق أحمدي نجاد إذا سيكون امام اختبار الناس له كما اختبار العالم وستكون قدرته على النجاح في مدى شجاعة الأداء المتفاوت الذي وعد بتقديمه نموذجا جديدا لاخراج الفقراء والمعدمين والمهمشين من فقرهم وبعدهم عن استثمار امكانات بلادهم كما في قدرته على تحويل التهديدات المحيطة بالحقوق الإيرانية الوطنية المشروعة إلى فرص جدية للانتقال بإيران إلى المكانة اللائقة بها من دون التصادم غير المحمود مع المجتمع الدولي.
* رئيس منتدى الحوار العربي الايراني
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 1065 - الجمعة 05 أغسطس 2005م الموافق 29 جمادى الآخرة 1426هـ