بادئ ذي بدء، فإن هذه السطور ليست مذكرات شخصية، لأن المذكرات بطبيعتها تتجه إلى الحال الشخصية، بينما التحليل يتجه إلى الموضوع ويحاول الابتعاد عن الجانب الشخصي. ولكن، نظرا إلى انني كنت المتحدث باسم حركة أحرار البحرين ما بين عامي 1994 و2001 فإن الموضوع يتأثر بالتجربة المباشرة التي مررت بها.
أما الدافع إلى الكتابة في هذا الموضوع فهو الطلب من عدد غير قليل من القراء الذين تابعوا المقال الذي طرحت فيه خلفيات نشوء الحركة الإسلامية الشيعية البحرينية التي انطلقت باسم حزب الدعوة الإسلامية "فرع البحرين" في العام 1986، ومن ثم حل الحزب في العام 1984. وقبل انحلال حزب الدعوة نشأت حركة احرار البحرين انطلاقا من لندن.
كما تقدم ذكره في مقال سابق، فإن "حركة أحرار البحرين الإسلامية" تم تأسيسها من قبل المجموعة البحرينية المتحركة والمنطلقة من لندن "والتي كانت منضوية في إطار حزب الدعوة الإسلامية" بعد العام 1981 عندما بدأت الأزمة بين الحركة الإسلامية الشيعية والسلطة تشتد على اثر انتصار الثورة الإسلامية في إيران ومن ثم تحرك الشارع الشيعي ورفعه مطالب متفرقة، بعضها كان ذا طابع إصلاحي، وآخر اتخذ منحى ثوريا.
انتصار الثورة الايرانية
عشية انتصار الثورة الإسلامية في إيران العام 1979 كانت الساحة الشيعية البحرينية تتحرك وفق نهجين مختلفين، أحدهما يقوده حزب الدعوة، والثاني أسسه السيد هادي المدرسي الذي هاجر إلى البحرين في مطلع السبعينات من القرن الماضي.
كانت الاختلافات "ومازالت" بين الخطين جذرية، إذ إن حزب الدعوة يرجع في مرجعيته إلى علماء دين ينطلقون من حوزة النجف الأشرف، بينما يطرح المدرسي خطا يرجع في نهايته إلى المرجع الديني السيد محمد الشيرازي الذي كان ينطلق من كربلاء المقدسة. ولأن المنافسة بين النجف وكربلاء حسمها علماء الشيعة لصالح النجف في القرن التاسع عشر الميلادي، فإن محاولة إعادة كربلاء إلى موقع المرجعية الدينية كان مصدرا "ولايزال" للحساسية بين الخطين "خط الدعوة وخط الشيرازي".
غير أن العام 1979 جلب تأثيرا آخر لم يكن موجودا، وهو "خط الإمام الخميني"... هذا الخط نبع من حوزة قم المقدسة وترعرع في النجف الأشرف، ولكنه كان منحصرا بين الشيعة الإيرانيين حتى العام 1979. أما بعد انتصار الثورة في إيران، فإن جاذبية خط الإمام الخميني، اختصارا أطلق عليه "خط الامام"، أصبحت من القوة بمكان أدت إلى خفوت جميع التأثيرات الأخرى. بل إن الكثير بدأ يدعي أنه من أتباع "خط الامام" قبل العام 1979 في محاولة لركوب الموجة العارمة التي اجتاحت العالم الإسلامي عموما، والعالم الشيعي خصوصا.
مباشرة بعد انتصار الثورة في إيران دخل "خط الشيرازي" في مواجهة مع السلطة، وكان "خط الدعوة" يمر في صراع فكري لم يستطع حسمه حتى انحلاله في العام 1984.
اعدام الصدر
في مطلع ابريل/ نيسان 1980 أعدمت الحكومة العراقية - برئاسة صدام حسين - الإمام محمد باقر الصدر وأخته آمنة المعروفة باسم "بنت الهدى". مباشرة بعد ذلك، اجتمع "علماء الدين في البحرين" وأصدروا بيانا أدانوا فيه الحكومة العراقية ودعوا الشعب إلى إعلان الحداد.
استجاب الشيعة في مختلف ارجاء البحرين، وخرجت مظاهرات في "فريق المخارقة" في وسط العاصمة. إلا أن قوات الأمن واجهت تلك المظاهرات، وحدثت أول مواجهة بين الحركة الإسلامية الشيعية والحكومة البحرينية. المظاهرات نتجت عنها اعتقالات واسعة، وأحد الذين تم اعتقالهم كان جميل العلي، وهو الذي استشهد تحت التعذيب.
وعندما نقلت جثة العلي إلى المغتسل، قام الشباب بتصويرها ومن ثم تكثير الصور وتوزيعها لاثبات انه قتل تحت التعذيب الشرس. وكانت هذه بداية المواجهات التي استمرت حتى نهاية التسعينات من القرن الماضي.
وكان الشباب قد أسسوا موكب عزاء في المنامة أطلقوا عليه "موكب عزاء الشهيد"، ويقصد به الشهيد جميل العلي، وكان خروج الموكب في كل مناسبة دينية يشهد مواجهات واعتقالات لم تهدأ طوال سنوات كثيرة لاحقة.
المجموعة اللندنية
المجموعة المتحركة في إطار حزب الدعوة والتي كانت موجودة في لندن كانت تطالب بضرورة السماح لها بالتحرك إعلاميا على الأقل، لأن الأوضاع البحرينية كانت في تصاعد مستمر، وكانت هناك حاجة لشرح موقف المعارضة "أو جانب من المعارضة". حزب الدعوة كان منشغلا في حواراته الداخلية وكان "محتارا" بين البقاء على "خط الدعوة" أو الانتقال إلى "خط الامام" وما يعنيه ذلك من تبعات سياسية وتنظيمية وفكرية.
الحزب كان ينظر إلى "المجموعة اللندنية" على انها مصدر قوة ومصدر ازعاج له في الوقت ذاته، وخصوصا انه كانت هناك دائما المخاوف من تأثر من يعيش في لندن بـ "الأفكار الليبرالية". ولذلك كان أهون الشرين هو السماح للمجموعة اللندنية بالتحرك تحت اسم آخر وهو "حركة احرار البحرين الإسلامية"، على ان يكون ذلك من أجل النشاط الإعلامي ومن دون أن يثقل الساحة البحرينية التي كانت تزدحم فيها المشكلات.
وهكذا بدأت المجموعة اللندنية بإصدار منشورات باسم "حركة احرار البحرين الإسلامية"، وكان أول بيان صدر عن الشيخ جمال العصفور في العام 1981 والذي توفي بعد اعتقاله "تحت التعذيب" بعد اتهامه بتأسيس حركة اطلق عليها اسم "حركة الشهداء". مباشرة بعد ذلك الوقت قامت سلطات الأمن في ديسمبر / كانون الاول 1981 بالقبض على أعضاء الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين "خط الشيرازي"، وعلى اثر ذلك تحركت منشورات حركة احرار البحرين بصورة اكبر بهذه المناسبة.
نشرة "صوت البحرين"
استمر الوضع على ما هو عليه حتى مطلع العام 1983عندما قررت المجموعة اللندنية تطوير العمل الإعلامي من خلال اصدار نشرة شهرية باسم "صوت البحرين". وهكذا صدر العدد الأول من النشرة في فبراير/ شباط العام 1983 ، ولاخفاء مصدرها قامت المجموعة باختيار عنوان في المانيا للايحاء بأن النشرة كانت تصدر من هناك. ولكن الجميع كان يعلم من أين تصدر ومن يصدرها.
في نهاية العام 1983، بدأ حزب الدعوة يهتز داخل البحرين لعدم حسم الموقف الفكري ولاقتراب السلطة من "ساعة الصفر" للهجوم عليه وتفكيك قيادته. وفعلا اكتمل الأمران "حل الحزب واعتقال كوادره" في آن واحد، مع مطلع العام 1984. بل إن قوات الأمن البحرينية قامت ايضا بإغلاق جمعية التوعية الإسلامية في فبراير / شباط 1984 بحجة أن عددا من قياديي الحزب كانوا أيضا قياديين في الجمعية.
محاولة لـ "اعادة التنظيم"
بعد انحلال الحزب في 1984 تجمع عدد من قادة الدعوة الذين كانوا موجودين خارج البحرين، وقرروا إعادة تنظيم الصفوف، ولكن تحت اسم "حركة احرار البحرين الإسلامية"، وذلك للتخلص من تبعات الانتماء إلى حزب الدعوة الذي كان ينقسم على نفسه في الأماكن الأخرى أيضا بسبب عدم حسم الموقف الفكري ما بين انتهاج "خط الامام" او البقاء على "خط الدعوة" .
المجموعة الجديدة التي تحالفت مع المجموعة اللندنية سعت إلى تنشيط القواعد والحصول على "شرعية دينية" لوجودها من خلال استرخاص السيد عبدالله الغريفي الذي كان يعيش في دمشق آنذاك.
وقام افراد المجموعة بزيارات مكوكية ولقاءات استمرت لمدة عامين، وكانت خلالها الحركة تصدر منشـورات "تنظيرية - داخلية" باسم "احرار البحرين"، أو باسم مختصر احيانا "حابا".
ولكن في العام 1986 تفككت هذه المجموعة بعد ان اقتنعت بأن الموجة في الشارع الشيعي كانت متضاربة فيما يخص العمل المنظم، اذ كانت هناك دعوات تحرم "العمل الحزبي" او اي عمل يحاول اقامة "تنظيم سياسي" خارج اطار المرجعية الدينية "المتصدية للشأن السياسي" والتي بدأت تطلق على نفسها مسميات عدة، من بينها "حزب الله" .
حزب الله
في السنوات اللاحقة اصبح مصطلح "خط الامام" يشبه الماركة المسجلة لمجموعات أطلقت على نفسها اتباع "حزب الله" حتى لو لم يكن هناك رابط تنظيمي وهيكلية حزبية بالمفهوم المتعارف عليه. ولعل أفضل شرح لتلك الحال هو الكتاب الذي صدر في العام 1985 بعنوان "طريقة عمل حزب الله". المؤلف كان احد قياديي حزب الدعوة، ولكنه كان من الذين سارعوا إلى ترك خط الدعوة والالتحاق بخط الامام، ومن ثم حاول التنظير للخط من خلال الكتاب المذكور. على ان الفكرة ظلت غير واضحة حتى يومنا هذا، فليس من الممكن لحد الآن فهم مدلالوت المصطلحات الجديدة التي طرحها عدد من الذين حاولوا التنظير للمفهوم الجديد، مثل "امة حزب الله"، "الفتاوى الولائية"، إلخ، اذ كان هناك خلط بين متطلبات العمل التنظيمي المحدد الأطر وبين العمل الجماهيري الذي يستمد قوته من حضور صلاة الجماعة هنا او هناك، او الاستماع إلى خطب حماسية ومن ثم ترجمتها بحسب فهم كل شخص او كل مجموعة.
طبعا يستثنى من هذا الحديث "حزب الله اللبناني" الذي نشأ كمنظمة عسكرية واجتماعية واقتصادية وسياسية في ظروف معينة وضمن تحالف اقليمي له مبرراته الواضحة.
في تلك الاجواء، كانت أية دعوة لاقامة بديل سياسي تحتاج إلى جهود كبيرة جدا، وهذه الجهود لم تكن ستنجح بسهولة مع الأخذ في الاعتبار اختلال الأطر الفكرية الداعمة اضافة إلى ازدياد قسوة القبضة الأمنية.
منتصف الثمانينات
في منتصف الثمانينات خلت الساحة تقريبا من اي عمل منظم. فتنظيم الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين "خط الشيرازي" وتنظيم حزب الدعوة تم ضربهما، ودخلت البحرين أسوأ فترات تطبيق قانون أمن الدولة. ولكن، ومع كل ذلك، كانت هناك تحركات تتنفس في الداخل.
فمن جانب، تسلم صلاة الجماعة في "مسجد الخواجة" في وسط العاصمة المرحوم السيد أحمد الغريفي الذي كان قد أنهى دراسته الحوزوية في النجف الاشرف، ومن ثم أنهى الماجستير من جامع الأزهر في القاهرة، وكان يمتلك شخصية محببة للشباب الذين كانوا يتعطشون لمن يلتفون حوله. السيد أحمد الغريفي التزم بأسلوب هادئ وبناء واستطاع ان يحتوي الناشطين الشباب والتف حوله ايضا الجامعيون المتدينون الذين كان لهم الأثر الاكبر في لملمة الصفوف بعد الضربات الموجعة التي وجهت للحركة المنظمة آنذاك.
إلا أن السيدأحمد الغريفي اصيب في حادث مروري "البعض قال ان الحادث دبر للقضاء عليه" في نهاية يوليو/ تموز 1985. وسبب فقدانه حزنا كبيرا في اوساط الناس، وكان هذا واضحا من الجنازة الجماهيرية الكبرى التي خرجت في مقبرة عالي لتشييعه. وكان خروج الجماهير هو الاول من نوعه في تلك الفترة بعد الضربات الأمنية الموجعة. وبعد ذلك الاحتشاد الكبير بدأت الثقة تعود إلى اوساط الناشطين الذين أكتشفوا ان القبضة الأمنية لم تقض على قوة الناس وامكان حشدهم في فترات الحرج.
بعد انتقال الغريفي إلى الرفيق الاعلى، تسلم صلاة الجماعة في مسجد الخواجة الشيخ عيسى أحمد قاسم، وهو ما أدى إلى تعزيز الصفوف التي كانت تعيش تحت الضغط الأمني الشديد.
في هذه الأثناء، كان الشيخ عبد الامير الجمري يفتح مجلسه باستمرار لاستقبال الشباب والناشطين، وكان مجلسه الوحيد الذي قاوم الاغلاق على رغم الضغط والتهديد المباشر من الجهات الأمنية. تصاعد الامر في العام 1987وثم في 1988 عندما تحرك الشباب في البلاد القديم وتحدوا الضغط الأمني. بعد ذلك اعتقلت الأجهزة الأمنية اعدادا كبيرة من الشباب واتهمت الشيخ الجمري بأنه الملهم لهم، وتم اعتقال ابن الشيخ الجمري وزوج ابنته وحكم عليهما لاحقا بالسجن 10 و 7 سنوات على التوالي قضياها بصورة كاملة وزادا عليها.
الشيخ الجمري اعتقل ايضا لمدة نصف يوم في مطلع سبتمبر/ أيلول 1988 ولكن افرج عنه بعد خروج مظاهرة جمعت أهالي بني جمرة والتحق بها بعض أهالي المرخ والدراز الذين سمعوا بالخبر المفاجئ حينها. وعلى اثر ذلك تمت اقالة الشيخ الجمري من القضاء الجعفري، اذ كان يمارس عمله هناك منذ العام 1977. على رغم كل تلك الحوادث استمر الشيخ الجمري في فتح مجلسه واستقبال الناس بمن فيهم الشباب والناشطون الذين كانوا ملاحقين ويتم اعتقالهم باستمرار.
وفي الوقت ذاته ازدادت المراقبة الأمنية حول منزل الشيخ الجمري، وأصبح امرا معتادا وجود سيارتين للأمن على الأقل تراقب منزله وتلاحقه باستمرار. وهذا التواجد الأمني كان موجودا منذ العام 1981 ولكنه ازداد كثيرا مع نهاية الثمانينات من القرن الماضي وكان كثير من الشباب يتم اعتقالهم بتهمة زيارة مجلس الشيخ الجمري.
"سفارة" للمهدي في سجن جو
بينما الاوضاع تشتد أمنيا، كان السجناء السياسيون من أعضاء الجبهة الإسلامية "خط الشيرازي" وأعضاء حزب الدعوة يعيشون في عالم آخر. ففي داخل السجن بدأت دعوة "ربما في العام 1986" من قبل احد السجناء تقول "ما معناه" ان الامام المهدي "ع" قد عينه "سفيرا"، أو "بابا" شرعيا للاتصال به من خلاله. واستطاع صاحب الفكرة "وهو كان سابقا من اتباع خط الشيرازي" ان يجمع عددا من اتباع خط الدعوة وخط الشيرازي حوله.
كانت فكرة "البابية" قد نشأت في أوساط الشيعة من قبل، واهمها كانت في كربلاء المقدسة قرابة العام 1843م عندما أعلن احد الاشخاص "وكان تلميذا لاحد مراجع الدين الذين يتخذون من كربلاء مقرا لهم" انه "الباب" للامام المهدي "ع"، وكان ذلك العام يصادف مرور ألف سنة على غيبة الامام المهدي، وكانت بعض الاوساط قد تنبأت بعودته بعد ألف عام. تلك الحركة "البابية" رفضها علماء الشيعة، وحدثت مآس في كربلاء بعد انفلات الوضع ودخول القوات العثمانية واستباحة المشاهد المقدسة. وعلى إثر ذلك، توحد أكثرية علماء الشيعة وقرروا ان تتركز المرجعية الدينية العليا في النجف الاشرف فقط. وعلى هذا الاساس، فقد كانت هناك حساسية من أية محاولة لتكوين مرجعية دينية اخرى تنطلق من كربلاء.
على أي حال، لم يتوقع أحد ان تنطلق دعوة مشابهة من احد سجون البحرين، والاغرب من ذلك ان صاحب الفكرة استطاع ان يحقق ما عجز عنه الآخرون، وهو توحيد اتباع من خط الدعوة مع اتباع من خط الشيرازي في اطار واحد.
المفاجأة الأخرى هي ان صاحب الفكرة استطاع ان يخلق تنظيما داخل السجن، وان التنظيم بدأ يخرج إلى خارج السجن عبر الزيارات العائلية، وان عددا من الناشطين التحق بالتنظيم وبدأ ينظم الصفوف على أساسه.
فوجئ علماء الدين في العام 1987و1988 بأن الفكرة لم تعد محصورة، وانما أصبحت تنظيما يتنامى في اوساط الناشطين، واضطرهم ذلك إلى الخروج من العزلة التي فرضت عليهم بعد احكام القبضة الأمنية لاستصدار فتاوى تحرم الفكرة وتدعو إلى "تتويب" من التحقوا بالتنظيم. كان التنظيم يقوى وينتشر، ولذلك كان التصدي له بالقوة نفسها، واستطاع العلماء احتواء امتدادات التنظيم مع نهاية الثمانينات، لكنه بقي موجودا ويتحرك في اطار منظم من خلال من آمنوا بالفكرة واستمروا عليها.
حادثة مايو 1990 في لندن
في لندن، كانت المجموعة اللندنية تراقب الامور وتتحرك بحسب امكاناتها ومجالات العمل المتوافرة لديها. حينها "العام 1986" كانت فكرة اعادة تنظيم صفوف حزب الدعوة تحت مسمى "احرار البحرين" قد فشلت، وعاد الأمر مرة أخرى لمجموعة صغيرة تستقر في لندن وتنشط إعلاميا وحقوقيا وسياسيا، واستمر هذا الوضع من 1986 حتى 1990، قبيل الغزو العراقي للكويت.
لكن حدثت للمجموعة اللندنية حادثة في مايو / أيار 1990 غيرت مجرى النشاط بصورة جذرية. ففي هذا الشهر فوجئت المجموعة باعتقال المخابرات البريطانية ثلاثة من افرادها، تحت "قانون مكافحة الارهاب" البريطاني.
المجموعة البحرينية علمت لاحقا بأنه قبيل الاعتقال "الاعتقال حدث في 22 مايو 1990" كان قد زار لندن وفد أمني بحريني رفيع المستوى وقام بتسليم أوراق إلى المخابرات البريطانية تتهم المجموعة اللندنية بامتلاك أسلحة والسعي إلى احداث تفجيرات في البحرين وأماكن أخرى.
المخابرات البريطانية هجمت على عدة منازل وفتشتها وصادرت كثيرا من الوثائق، وقامت بالتحقيق مع البحرينيين الذين احتجزتهم بصورة انفرادية عن كل شيء كانت المجموعة تقوم به في بريطانيا.
اثناء اعتقال الثلاثة، تحرك عدد من الناشطين "الذين لم يعتقلوا ولكنهم كانوا تحت المراقبة الشديدة" بصورة حثيثة وملحوظة وعلى كل المستويات. وكانت بالنسبة إلى المجموعة اللندنية أول مناسبة لإصدار تصريحات قوية باللغتين العربية والانجليزية تناقلتها وسائل الإعلام البريطانية آنذاك، ما أعطى بعدا كبيرا للمجموعة وسلط الاضواء عليها، وخصوصا ان عددا من الشخصيات والمؤسسات المؤثرة هبت للمناصرة. هذا الاثر الكبير للتحرك أخرج الطاقات الكامنة التي لم تكن قد تحركت بهذا الشكل من قبل، ومنح الثقة للمجموعة اللندنية بأن بإمكانها ان تتحرك وتوصل رأيها إلى اوسع نطاق وان تنجح في اجتذاب المناصرين واقناع الآخرين بوجهة نظرها.
بعد اسبوع من التحقيق في كل شيء افرجت المخابرات البريطانية عن الاشخاص الثلاثة وذلك بعد أن وجدت أن كل ما لديهم لا يخالف القانون البريطاني.
كانت هذه الحادثة أهم ما حصل للمجموعة اللندنية في تاريخها آنذاك. فبعد ذلك كانت هناك عدة قرارات حاسمة. فمادام أن أجهزة الأمن والمخابرات البريطانية تعرف كل شيء، ومادامت المجموعة أصبحت معروفة للصحافة وجميع من يراقب الأمور، ومادامت انشطتها التي كانت تقوم بها لا تخالف القانون البريطاني، وبعد ان اتضح كل شيء، فإن أفضل خيار هو "التحرك العلني"، وبـ "الاسماء العلنية" ومن دون أي تردد.
بعد تحرير الكويت في 1991
بعد عدة أشهر حدث الغزو العراقي للكويت، في أغسطس 1990 وبعد تحرير الكويت في مطلع 1991 بدأت الساحة السياسية البحرينية تتحرك على مستوى النخبة، وبدأت الاتصالات تعود مع مختلف الفعاليات آنذاك وبدأ الجميع يتحدث عن "موجة ديمقراطية" ستعم المنطقة بعد تحرير الكويت، وذلك بعد ازدياد الحديث عن "نظام عالمي جديد".
هذه كانت الفترة الذهبية للتحرك في مجال المطالبة بالحياة الدستورية والديمقراطية. وكانت الحركة قد نشطت كثيرا في هذه الفترة وجددت العلاقات مع الداخل ومع اطراف المعارضة اليسارية للاتفاق على الأهداف.
دخلت المجموعة اللندنية العام 1991 وهي مفعمة بالتفاؤل، وبدأت الفعاليات تتنفس قليلا في الداخل عبر مقابلات وتصريحات متفرقة للرموز السياسية داخل البحرين تؤشر على المطالب البرلمانية والدستورية.
الشيخ الجمري يتصدر الساحة
في هذه الفترة قرر الشيخ عيسى أحمد قاسم الالتحاق بحوزة قم المقدسة لمواصلة التحصيل العلمي، ومباشرة برز إلى قيادة الساحة الشيعية من الداخل الشيخ عبدالأمير الجمري الذي كان قد رفض اغلاق مجلسه بعد أن أغلقت الحكومة "جمعية التوعية الإسلامية"، وبعد أن اغلق جميع العلماء المتحركين مجالسهم بطلب من أجهزة الأمن أو خشية منها.
الشيخ الجمري بدأ يتحرك مع عدد من أفراد المجتمع البحريني نحو تقديم عريضة مطلبية إلى سمو أمير البلاد الراحل، وفعلا اكتمل العمل على "العريضة النخبوية" وتم تقديمها في نهاية العام 1992.
في لندن كان النشاط يزداد مع الأيام، ومع مطلع العام 1992 قررت حركة احرار البحرين اصدار نشرة شهرية باللغة الانجليزية تحمل اسما مقاربا للنشرة العربية، وتم اختيار اسم Voice of Bahrain.
غير أن ترجمة اسم الحركة كان صعبا جدا، فهل تتم ترجمة اسم الحركة حرفيا أم تعتمد تسمية أخرى قريبة من المعنى.
الحوارات كانت تتحرك في كل جانب، وبعد أن انطلقت التعبيرات في كل ناحية توصل المتحاورون إلى اسم باللغة الانجليزية يحمل معنى الحركة Bahrain Freedom Movement واختصاره "BFM".
بعد ذلك تواصلت الحوارات وتم الاتفاق على إصدار النشرة الانجليزية بدءا من يناير / كانون الثاني 1992.
الشيخ علي سلمان
في مطلع التسعينات بدأ عدد من رجال الدين الذين درسوا في قم المقدسة يعودون إلى البحرين، وكان من بينهم الشيخ علي سلمان الذي تسلم الصلاة في مسجد الخواجة خلفا للشيخ عيسى أحمد قاسم "الذي كان قد غادر إلى قم المقدسة لمواصلة الدراسة الدينية".
بعض أفراد هذه المجموعة العائدة إلى البحرين بدأ يتحرك مع الشيخ الجمري ويتفاعل مع الحركة المطلبية التي بدأت تزداد مع ازدياد الحديث عن النظام العالمي الجديد.
في الوقت ذاته كانت اعداد العاطلين عن العمل تزداد وتضغط على الساحة السياسية. وهكذا حل العام 1994، وفي منتصف العام "يونيو/ حزيران 1994" حدث أول اعتصام من نوعه للعاطلين امام وزارة العمل والشئون الاجتماعية.
في الوقت نفسه كان الشيخ الجمري يتحرك مع رفاقه من الاتجاهات السياسية الأخرى لطرح "عريضة شعبية" ترفع مطالب العريضة النخبوية التي طرحت العام 1992.
وبدأت التحركات في كل مكان لجمع التواقيع، وحصل المشرفون على "العريضة الشعبية" مع منتصف أكتوبر/ تشرين الأول 1994 على نحو 20 ألف توقيع، وقيل إن العدد وصل إلى 25 ألفا.
أجندة المطالب السياسية اختطلت بأجندة المطالبين عن عمل، واختطلت بأجندة أخرى أيضا. ففي 25 نوفمبر/ تشرين الثاني 1994 كانت هناك مسيرة "ماراثون" رياضية يشارك فيها رجال ونساء أجانب، وكان قد خطط لها ان تمر بالقرب من دوار قرية "القدم". تحركت حينها مجموعة من الشباب لمعارضة مسيرة الماراثون على أساس أنها مخالفة للعادات والتقاليد، وقيل ان بعض الشباب رمى الحجارة على المشاركين في المسيرة.
وفي الاثناء كانت الفعاليات الاجتماعية والدينية تحث على جمع تواقيع العريضة الشعبية.
في هذه الاثناء قررت قوات الأمن اعتقال الشباب الذين شاركوا في اعتصام العاطلين عن العمل امام الوزارة في منتصف العام، وكذلك المشاركين في الاعتراض على مسيرة الماراثون.
وفي 5 ديسمبر/ كانون الأول 1994 داهمت قوات الأمن منزل الشيخ علي سلمان في البلاد القديم واعتقلته بتهمة تحريض الشباب على الاعتصام... وبعد ذلك بدأت تتفاعل الساحة الشعبية وانفجرت انتفاضة كبرى لم تشهد البحرين مثلها منذ الخمسينات من القرن الماضي. وهذا موضوع يحتاج إلى أكثر من تحليل وتقرير
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 1064 - الخميس 04 أغسطس 2005م الموافق 28 جمادى الآخرة 1426هـ