أمة تعيش حالا من الوثوق المطلق فيما أنجزت يستحيل عليها مراجعة ما أتمت، ومثل تلك الاستحالة تؤكد حالا من "وهم" الثبات الأمر الذي يعني أن حالا من الوثوق لديها يمتد ليشمل كل ثابت، جامد، مراوح فيها.
متى ما انتفت المراجعة، تنتفي معها قدرة الأمة على القفز من لحظتها الراهنة الى التي تليها، ويصبح الحديث عن مبارحة الماضي وخلق حال من الحراك في الحاضر استعدادا لشروط ومتطلبات المستقبل، ضربا من الهذيان أمام حقائق الوجود والتاريخ.
أزمة المراجعة هي التي تجعل من هذا الجزء من العالم تربة خصبة لفرض تحولات وتغيرات من الخارج، وليس بالضرورة أن تأتي تلك التحولات والتغيرات بالبديل المنقذ لأوضاع الأمة المتردية، بل يمكنها أن تزيد الأوضاع خطورة وترديا على أكثر من مستوى، ما لم تكن نابعة وناتجة عن موقف المراجعة الذاتي والضروري، ومنطلقة من قراءة أوضاعها بعينها ومداركها هي لا بعين ومدارك الآخر.
كل تأجيل في المراجعة يقابله على الجانب الآخر، تراكم للشروط، وتضاؤل في الفرص، واستحلاب للزمن الخاص، بمعنى سد الأفق في وجه المحاولات الناهضة لا ستدراك المتأزم من الأوضاع والمفكك من صور ذلك الوجود.
ولن تتأتى المراجعة القادرة على وضع الأمة على الطريق الصحيحة إلا بالمواجهة الصادقة والعميقة لمواضع الخلل واستكناه أسباب وقوعه لا تفاصيل كيفية وقوعه.
المواضع الوثوقية في الدين لا تحول دون تلك المراجعة ولا تعطلها مادام الأمر متعلقا بالتعاطي والأخذ بأسباب الحياة والوجود من دون الاخلال بالايمان وتفاصيله ومحاولة فهم تلك التفاصيل، اذ جزء كبير من تفاصيل ذلك الإيمان لا يمكنه ان يطرد ويتراكم بعيدا عن حقيقة المراجعة وشروطها.
جزء كبير من القول والفعل والتقرير في السنة النبوية الشريفة كان منطلقا من الفحص والمعاينة لأوضاع الأمة، ونظر وذهاب عميق للمقبل من الزمن، وفي المحصلة النهائية، لا تلغي المراجعة تلك مسألة العصمة ولا تنال منها، بل على العكس من ذلك، هي تؤكدها وتعمقها من خلال عصم الأمة من الركون الى ما تحقق وإهمال النظر والتفكير فيما يجب أن يتحقق.
احتكار فهم وتفسير الدين لا يتيحان فضاء معافى تتحرك من خلاله المراجعة، ومركزة السلطة في جانب وتفريغها من الجانب الآخر لا يدفعان بالمراجعة الى التوصل الى النتائج المتوخاة، وان انتاج الاشتراطات من خلال كل ذلك يئد المراجعة قبل أن تبدأ بالقيام بدورها ووظيفتها.
لا يمكن لأية صورة من صور القمع والمصادرة واحتكار الفهم والتفسير إتاحة فضاء مريح كي تنطلق من خلاله، متسائلة، متقصية، مستدركة، وخصوصا اذا ما تم تحزيم القمع بالدين وهو منه براء.
تتيح المراجعة فرصة لإعادة ترتيب امكانات الأمة، وتوجيهها كطاقة فعالة في حركة المراجعة وما يتمخض عنها، ومثل ذلك الترتيب والتوجيه يكشفان عن جانب كبير ومهم من مكمن الخلل ما يدفع الى الكشف عن مكامن لم يكن مقدرا لها ان تكشف في ظل غض الطرف عن المراجعة والنظر اليها باعتبارها تطاولا وخروجا على الصميم من الثوابت.
اذا كانت المراجعة تعني قراءة البدايات والمراحل التي مر بها أداء الفرد أو الجماعة ومحاولة احتواء ما ارتبك أو تخلف في مسار السنن الاجتماعية والتاريخية وما يرتبط بهما، واذا كانت تعني فيما تعني توخي الأفضل ونزوعا نحو النهوض والسعي لتجاوز ما تحقق نحو الأفضل، ان على مستوى الأفكار والقناعات أو على مستوى ما تمخض عن تلك الأفكار، من حيث معاينته وتلمسه على الأرض، صار لزاما التعامل مع المراجعة باعتبارها واحدة من المنبهات لذلك التجاوز وواحدة من المحفزات للاتيان بالأفضل والأعمق وليس باعتبارها ترددا وإرباكا وتشككا ينتاب أداء التعاطي مع الحاضر
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 1063 - الأربعاء 03 أغسطس 2005م الموافق 27 جمادى الآخرة 1426هـ