في سياقها العام، تبدو خطوة اقرار قانون الجمعيات السياسية بالطريقة والملابسات والظروف التي اقر فيها، رسالة للجمعيات المقاطعة تحديدا بأن الحال التي نشأت بعد العام 2002 لم تعد مقبولة.
المدلول الأكثر وضوحا هو ان على هذه الجمعيات ان تدخل وتشارك في العملية السياسية ومؤسساتها القائمة "البرلمان على وجه الخصوص" وان تحمل كل ملفاتها ومطالبها معها في كل الميادين الى البرلمان.
هذا نصف العبارة الاول، اما النصف الثاني فهو ان الحال التي نشأت منذ الخلاف بشأن المسألة الدستورية وكل ما نتج عنها حتى تلك المتعلقة بطريقة عمل الجمعيات وتعبيرها عن رأيها ومطالبها "لم تعد مقبولة".
لكن هذه الرسالة بقدر ما تعني الجمعيات المقاطعة، فانها تعني الجميع، والفحوى هي نفسها التي كانت تقال للمقاطعين: البرلمان هو الاداة والجهة الوحيدة لمناقشة التعديلات الدستورية.
لكن ماجرى بالنسبة لقانون الجمعيات يعطي رسالة اشمل من هذا تتعدى المسألة الدستورية. فامكان التواصل بين البرلمان ومن هم خارجه، امكان تلاشى تماما. ان عدم الالتفات لمقترحات الجمعيات ولا لمبادرتها بالتعاطي مع القانون عبر صوغ اقتراحات ورغبتها في التحاور مع اعضاء البرلمان تم استبعادها تماما وبطريقة واضحة. ولربما ان المسألة كانت لتبدو طبيعية ان يرفض البرلمان او يقبل التعاطي مع القوى السياسية والاجتماعية خارجه لولا انها هنا اكتسبت اهمية بالغة. مرجع الاهمية انها كانت محاولة لبناء جسر بين المؤسسة التشريعية وبين المقاطعين، يزيد في اهميتها ان المعترضين على القانون ليس المقاطعين وحدهم بل جمعيات مشاركة ايضا بل واعضاء داخل مجلسي النواب والشورى.
كان هذا الجسر لو تم بناؤه بعناية من شأنه ان يحرك حال الشلل التي اعترت الحياة السياسية لدينا ومن شأنه ان يدفع المقاطعين لإعادة النظر في خياراتهم ورؤاهم. كانت الرسالة ستختلف عما هي عليه اليوم، فالفارق سيبقى كبيرا بين ان يقتنع هؤلاء بالدخول الى البرلمان لأنه اثبت عكس توقعاتهم بشأن عدم فاعليته وبين ان يفكروا بالدخول تحت وطأة خيبة امل او ضغط يمثله هذا الميل لفرض قوانين مقيدة اخرى.
لقد ارتكب المقاطعون خطأ اوليا عندما حصروا انفسهم وتحركاتهم وبرامجهم في المسألة الدستورية فحسب. اخطأوا ايضا عندما قلصوا هامش الحركة امامهم برفضهم للتعاون مع البرلمان او الاعتراف به. فتبعات خيار مثل هذا ظهرت لاحقا عندما جاء اوان الجد. فاحد الاعتراضات التي طرحت على وجهة نظر الجمعيات هي انها لا تعترف بالبرلمان ومن ثم فلا يحق لها ان تعترض على ما يناقشه او يصدق عليه من قانون. هذه الحجة مضرة بموقع البرلمان نفسه كمؤسسة دستورية، فهي تختزله الى مؤسسة دستورية لجزء من المواطنين وليس لهم جميعا. لكن رغم هذا فهي للاسف حجة فاعلة ويتم الاخذ بها والاعتداد بها. السبب واضح هو ان كل ما جرى منذ 2002 وحتى اليوم لم يزد عن اختبارات قوة بين الحكومة والمقاطعين.
لم يسفر تجاهل المقاطعين للبرلمان سوى في زيادة جرعة عداء اعضائه لهذه الجمعيات. فالمناشدات المستمرة للملك بالتدخل والمخاطبات لم تمثل بالنسبة لاعضاء البرلمان سوى تجاوز مهين لهم.
ومع محاولة استدراك من قبل الحكومة عندما بادرت لفتح حوار مع الجمعيات بشأن المسألة الدستورية، فإنها انتهت بخطأ من قبل الحكومة عندما اوقفت الحوار مع الجمعيات بعد عدة جلسات. فهذه الخطوة لم تفعل سوى ان زادت المقاطعين اقتناعا بصحة موقفهم. لكن التبعات كانت تتجاوز هذا بكثير. فعندما تتقطع سبل وقنوات الحوار لا مناص من ان تصعد دعوات التشدد ويخلي العقلاء مكانهم للمتشددين قسرا.
لا يتعلق الامر بصحة الرأي من عدمه، فحتى المشاركين مقتنعون بالحاجة لادخال تعديلات على الدستور وطرحوا مسودات داخل البرلمان من اجل ذلك. الامر في النهاية يتعلق بالغاية القصوى من اي رأي. ثمة فارق بين السعي لاثبات صحة الرأي وبين السعي لاقناع الاخرين به شاملا كل الخيارات العملية الممكنة لذلك. الحاصل اننا اصبحنا اسرى معادلة وجدنا فيها الجمعيات تسعى لاثبات صحة رأيها اكثر مما تسعى لبحث خيارات عملية لاقناع الاخرين به، اي التعاون مع الاخرين الذين بقوا على مسافة من طروحات الجمعيات الأربع سواء كانت القوى السياسية الاخرى او اعضاء البرلمان.
الفارق كبير لأن الالحاح على اثبات صحة الرأي جعلنا اسرى اختبارات قوة من دون التقدم خطوة واحدة للوصول الى امكانات وخيارات عملية لإقناع الاخرين بهذا الرأي. فيما خص البرلمان، حال من دون ذلك رفض الجمعيات التعاطي معه. وبالنسبة للقوى السياسية الاخرى، فان الخلافات بشأن المؤتمر الدستوري مثلا الذي كان من المفترض ان يجمع الجمعيات الست في البداية، لم تفعل سوى ان كرست هذا الميل لتأكيد صحة الرأي اكثر من محاولة التفتيش عن خيارات عملية لاقناع الاخرين به.
اي ان الجمعيات الأربع وبخطوة اضافية ضيقت هامش الحركة امام نفسها الى اضيق الحدود في المسألة الدستورية.
لكن المسألة لا تتعلق بالمسألة الدستورية فحسب لان الانقسام بين "مشاركة" و"مقاطعة" ترك تأثيره الواضح لا على الحياة السياسية فحسب، بل شمل ذلك جميع مناحي النشاط العام وذهب الى ما هو ابعد من ذلك. لقد اوجد حلا من الشلل احد اوجه مظاهره البارزة هو ان الخلاف بشأن المسألة الدستورية بات يمثل نوعا من معيار اساسي لتقرير حدود التعامل مع الاخرين وحدود التقاطع معهم وامكانات التعاون والتنسيق. وكانت النتيجة ان التنسيق وصل الى ادنى مستوياته ولم يظهر الا بالحدود الدنيا وفي مظهر واحد هو الاحتفال بذكرى الهيئة.
الان عادت الجمعيات للتنسيق تحت وطأة الاحساس بتدارك الخسائر. قانون الجمعيات محطة اولى لكن العبرة واضحة. على الجميع ان يفكر بصيغة جديدة تخرج الجمعيات وتخرجنا ايضا من حال الشلل وانعدام الفاعلية هذا لان ثمار هذه الحال باتت واضحة: قوانين مقيدة للحريات والمزيد منها في الطريق. وهذا ثمن لا تدفعه الجمعيات فقط بل يدفعه الجميع. على هذا فإن ابسط ما يمكن ان يأمله المرء هو ان يصبح "الاحساس بالمسئولية" المقياس الاهم في مساعي الجمعيات التي تداعت للتنسيق الان وليس السعي لاثبات صحة وجهة النظر
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 1061 - الإثنين 01 أغسطس 2005م الموافق 25 جمادى الآخرة 1426هـ